«أنا نيلسون مانديلا.. أحاديث مع نفسى» هو الكتاب الأخير الذى كشف فيه الحائز على جائزة نوبل للسلام، وأول رئيس أسود لجنوب أفريقيا عن مكنون قلبه فى صورة مجموعة من الخطابات والأحاديث. الكتاب يحمل مقدمة بقلم الرئيس الأمريكى باراك أوباما وتمت ترجمته فى إسرائيل وصدر عن دار نشر «أحوزات بيت». يقول باراك أوباما فى مقدمة الكتاب إن نيلسون مانديلا يذكرنا بواسطة هذا البورتريه الذى يرسمه بأنه شخص غير مكتمل.. مثلنا جميعًا. فلديه أيضًا نقاط الضعف الخاصة به، ولكن فى عدم اكتماله بالذات يكمن الإيحاء والإلهام لكل واحدة وواحد منا. جميعا نواجه صراعات كبيرة وصغيرة، شخصية وسياسية، من بينها ضرورة التغلب على الخوف والشك.. نمسك بتلابيب جهودنا حتى وإن كانت نتيجة الصراع غير أكيدة.. نسامح الآخر ونتحدى أنفسنا. إن القصة المنشورة فى صفحات هذا الكتاب - القصة التى تعرض حياة مانديلا - ليست قصة عن أناس بلا أخطاء أو عن نصر معلوم مسبقًا. إنها قصة إنسان كان على استعداد لأن يعرض حياته للخطر من أجل الأمور التى آمن بها والتى بذل الجهد بلا كلل أو ملل لكى يعيش بطريقة تجعل من العالم مكانًا أفضل بكثير. وفى النهاية، فهذه هى قصة مانديلا لكل واحد وواحدة منا. كلنا جميعا نمر بأيام يبدو التغيير فيها صعبا.. أيام يمكن للمقاومة التى نواجهها وللضعف الذى فى داخلنا أن يحيدا بنا إلى الطريق السهل الذى لا يوجد به مسئولية أو التزام متبادل. فى عام 1964 صدر الحكم على مانديلا بالمؤبد بتهمة القيام بنشاط تخريبى والتآمر ضد نظام الحكم. وطوال فترة سجنه اعتاد مانديلا على تسجيل انطباعات وملاحظات لنفسه، كما اعتاد على كتابة الكثير من الخطابات، بل إنه أيضًا كتب سيرة حياته ونجح فى تهريبها إلى خارج السجن بواسطة أصدقائه. من بين هذه الخطابات خطاب كتبه إلى وينى مانديلا فى سجن كروستيد مؤرخ فى الأول من فبراير عام 1975، ويقول فيه: بالمناسبة، ربما ستجدين أن الزنزانة مكان مثالى لمعرفة ذاتك.. للتحقق من مشاعرك. عندما نحاسب أنفسنا نميل للارتكاز إلى عناصر خارجية مثل المكانة الاجتماعية والتأثير والشعبية والغنى والمستوى الطبقى والثقافى. وهذه الأمور بالطبع لها أهميتها عند قياس نجاح الإنسان فى الأمور المادية، لكن العناصر الداخلية ربما تكون أهم فى تقدير مدى تطور الإنسان كإنسان. إن الاستقامة والصدق والبساطة والتواضع والكرم والشهامة والبعد عن الغرور والاستعداد لخدمة الآخرين - هى صفات يمكن لكل نفس أن تتكيف معها فهى أساس الحياة الروحانية للإنسان، وفى كل ما يتعلق بالأمور من هذا النوع فإن التطور غير ممكن على الإطلاق بدون الفهم الداخلى المعمق.. بدون أن تعرفى نفسك.. نقاط ضعفك وأخطائك. وعلى أية حال فإن زنزانة السجن تمنحك إمكانية أن تفكرى بصورة يومية فى مجمل تصرفاتك وأن تتغلبى على الشر وتنمى الخير الذى فى داخلك. وعلى سبيل المثال فإن التأمل الدائم ولربع ساعة قبل النوم، يمكن أن يفيد جدًا فى هذه الحالة. فى البداية سيكون من الصعب عليك تعقب العناصر السلبية فى حياتك، ولكن مع التجربة تلو الأخرى سوف تحققين النجاح. عن السيرة الذاتية وفى خطاب إلى فاطمة مير مؤرخ فى الأول من مارس 1971، كتب مانديلا: المشكلة هى بالطبع أن غالبية بنى البشر ممن يحالفهم النجاح يصابون بنوع معين من الغرور ويصلون إلى مرحلة فى حياتهم تسمح لهم بأن يصبحوا أنانيين محبين لذواتهم يتفاخرون بإنجازاتهم الرائعة أمام الناس. أى غطاء لغوى أوجدته اللغة الانجليوية لمديح النفس؟ أوتوبيوجرافى. هكذا يفضلون أن يطلقوا عليه فى حين أنهم يستغلون نواقص الآخر لتضخيم قدرات المؤلف. لا اعتقد بأننى سأجلس ذات مرة لكى أكتب عن الخلفية التى جئت منها. لا توجد لى إنجازات أتفاخر بها ولا قدرة على عمل ذلك. لو عشت على عصير القصب الكحولى الرخيص كل يوم لما استجمعت شجاعتى أيضًا لعمل ذلك. لن يغوينى أى شىء لكى أمتدح فى نفسى. وفى أوراق بخط يده كتبها فى السجن ولم تنشر، يقول مانديلا: فى مساء الثلاثاء وصلت إلى ميتاتا المدينة التى شهدت طفولتى (يقصد مانديلا الجولة التى قام بها عام 1955 والتى خالف بها الأوامر بعدم مغادرة محل إقامته). البيت هو البيت حتى بالنسبة لأولئك الذين يتطلعون لخدمة المصلحة العامة ويختارون الإقامة فى بيوت بأقاليم بعيدة. لقد تغيبت عن هذا المكان 13 عامًا. شعرت كما لو كنت الابن التائه المعروف الذى عاد من الكتابات المقدسة وتطلعت باشتياق لمقابلة أمى والبيت المتواضع.. الأصدقاء الكثيرين الذين ترعرعت معهم.. المراعى الرائعة وكل الأشياء الصغيرة التى شكلت أيام صباى التى لا تنسى. والبقاء مع أمى فى بيتها ملأتنى بمشاعر طفولية. ومع ذلك لم يمكننى إلا أن أشعر بالذنب لأن أمى تعيش وحدها وعلى مسافة 35 كيلومترًا من أقرب طبيب. إخوتى وأنا عشنا بعيدًا عن هذا المكان. ورغم أن أولادها حاولوا كل بطريقته أن يوفروا لها الرفاهية الاقتصادية إلا أنها اختارت حياة التقشف وأخذت توفر مما يرسله لها أحد الأبناء لكى تعطى واحدًا آخر يمر بضائقة مادية. فى مناسبات سابقة بذلت الكثير من الجهد فى محاولة لإقناعها بالإقامة معى فى جوهانسبرج ولكنها لم تكن قادرة على اقتلاع نفسها من القرية التى عاشت فيها طوال حياتها.. ولأكثر من مرة سألت نفسى: هل أنا على حق عندما تركت عائلتى لكى أناضل من أجل الآخرين. وهل هناك شىء أهم من رعاية الأم المسنة؟ أن أبنى لها بيت أحلامها وأن أوفر لها أفضل الطعام والملبس. أليست السياسة فى مثل هذه الحالات مجرد حجة للتخلى عن أداء الواجب؟ ليس من السهل العيش مع ضمير يظل يطرح عليك مثل هذه الأسئلة المرة تلو الأخرى. وفى خطاب إلى وينى مانديلا مؤرخ فى 2 سبتمبر 1979 كتب يقول: إذا كنت ترين أن عام 79 هو عام المرأة، فلن يكون هذا خطأ بأى حال. فالفرنسية سيمون فيل مرت بأمور قاسية للغاية فى طريقها إلى رئاسة البرلمان الأوروبى، وماريا بينتسيلجو تحكم البرتغال، ومن غير الواضح من التقارير الواردة من هو الزعيم فى عائلة كارتر. أحيانًا يبدو أن روزالين كارتر هى التى ترتدى البنطلون (يقصد روزالين كارتر زوجة الرئيس الأمركى جيمى كارتر) ولا داعى لأن أذكر اسم مارجريت تاتشر، فعلى الرغم من انهيار الامبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس ورغم خروجها من الحرب العالمية الثانية بوصفها القوة الثالثة من حيث الأهمية، إلا أن بريطانيا لا تزال وفى العديد من النواحى، مركز العالم. وما يحدث بها يؤثر فى كل مكان. وإنديرا غاندى تذكرنا ومعها الحق فى ذلك أن أوروبا تسير خلف آسيا، ففى العقدين الآخرين كان هناك مالا يقل عن امرأتين فى منصب رئيس الوزراء. وإذا ما عدنا لمئات السنين فسوف نجد الكثير من النساء اللواتى يحكمن.. إيزابيلا فى أسبانيا واليزابيث الأولى فى انجلترا وكاترينا العظيمة فى روسيا (كم كانت عظيمة بالضبط لا أعرف)، ومانتاتيسى حاكمة قبيلة باتلوكوا فى الفترة 1813 - 1826، لكن هؤلاء أخذوا الحكم دونما أى علاقة بالموهبة والقدرات وإنما بالتوريث. أما الآن فالمرأة تتولى المنصب بموهبتها وقدراتها. الخير فى الغير وفى حديث له مع الصحفى ريتشارد ستنجل الذى شارك مانديلا فى كتابة سيرته الذاتية، سأله ستنجل: هناك أناس يقولون بأن المشكلة الكبرى عند مانديلا تتمثل فى أنه يبالغ فى استعداده لأن يرى الخير عند الآخرين، كيف ترد على ذلك؟ مانديلا: ربما كان فى ذلك بذرة من الحقيقة، ولكن إذا كنت شخصية عامة فمن الواجب عليك أن تفترض بأن الناس صادقون ومستقيمون إلى أن يثبت العكس. والناس الذين يقومون بأعمال تبدو جيدة، ما السبب الذى يدعوك لأن تشك فيهم وتتهمهم؟ وتقول بأنهم يفعلون الشىء الجيد لأن وراءهم دافع خفى؟ فقط عندما يثبت العكس يجب أن تواجه الموقف ولا تعطهم ثقتك، ثم تنسى الأمر كأن لم يكن. يجب أن نعرف بأن الناس هم المادة التى يتكون منها المجتمع الذى نعيشه، ولذلك فهم آدميين لهم صفات جيدة ولهم نقاط ضعف أيضًا. ومن واجبنا أن نعمل مع الإنسان كإنسان وليس لأننا نعتقد بأنه ملاك.