دساتير الدول لا تحتوى على «نكت»، لكنها تعالج الأسباب التى دعت إلى تأليف هذه «النكت»، ف «النكتة» هى التعبير الدرامى عن سخرية الشعوب على الأوضاع الخطأ. وفى مصر قبل 3 سنوات انتشرت «نكت» كثيرة عن الفساد .. فساد السلطة التى تزوجت من رأس المال فأنجبتا علاء وجمال مبارك، وأصهارهما وباقى العصابة من المسئولين ورجال نهب المال والأعمال الذين اتفقوا على اقتسام ثروات مصر وأغلى ما فيها الأرض.. ومن هذه «النكت».. واحدة تحكى عن ابن المسئول الكبير الذى ذهب للحكومة يطلب منها شقة فى الإسكندرية فمنحته الحكومة الشقة فعاد يطلب شقة أخرى فى أسوان فأعطوه إياها، فعاد يطلب فتح الشقتين على بعضهما.. ولم تكن هذه «النكتة» إلا تعبير ساخر عن الواقع، وظل للعود الأعوج وهى ليست اختراع من خيال مؤلف، ولكنها لوقائع حدثت بالفعل. (1) ويحكى حسب الله الكفراوى وزير الإسكان الأسبق أنه أثناء توليه المسئولية عن أراضى الدولة، فى المدن الجديدة أن ذهب إليه علاء نجل الرئيس مبارك فى مقر الوزارة وكان لا يزال يخاطب مسئولى الدولة الذين هم فى سن أبيه بصيغة احترام، وقال علاء للكفراوى:يا أونكل.. أريد ألف فدان فى مدينة 6 أكتوبر فظن الكفراوى أنه أخطأ السمع، فسأله مستفهمًا: ألف متر؟! فعاد علاء يؤكد: ألف فدان! فسأله الكفراوى: هل قلت ل «باباك» عن هذا (يقصد الطلب) قبل أن تأتى إلىَّ؟! فنفى علاء، وهنا طلب منه الكفراوى أن يُبلّغ أباه ويدعه هو الذى يكلمه فى هذا الشأن، ويقطع الكفراوى الحكاية مؤكدًا أنه لو حادثه مبارك كان سيرفض، لأن الاتجار فى أراضى الدولة ممنوع، ولم يكلم مبارك الكفراوى فى هذا الأمر، ولكن بعد حوالى 9 أشهر من هذه الحكاية تحديدًا فى شهر أكتوبر 1993 غادر الكفراوى وزارة الإسكان وجاء من بعده محمد إبراهيم سليمان، وحدث ما حدث من عملية نهب منظم ومقنن لأراضى الدولة ولا أعتقد أن هناك مصريًا لا يعرف كلا أو بعضا من هذه التفاصيل فى هذا الشأن وقد توسعت الصحف والمواقع الالكترونية والفضائيات فى نشر وإذاعة هذه التفاصيل بالأسماء والأرقام عن التصرفات التى طالت أراضى الدولة والوحدات (السكنية والتجارية) المملوكة لها وما شاب هذه التصرفات من ممارسات فساد ومخالفات. (2) كانت «النية» طيبة فى البداية، أقصد «نية» المسئول الأول فى مصر الرئيس الراحل أنور السادات.. هذه النية التى كثيرًا ما حدثنى عنها شيخ المعماريين المثقف المحترم المهندس الاستشارى صلاح حجاب، وسجلها فى مقالاته التى جمعها كتاب صدر حديثا يحمل عنوان «ودائمًا عمار يا مصر» فى إحدى هذه المقالات أنه عندما عرض البعض على الرئيس السادات الخطوط الأساسية للمخطط العام لمدينة العاشر من رمضان إحدى مدن الجيل الأول من المدن الجديدة أن طلب (السادات) من ممدوح سالم رئيس الوزراء آنذاك أن يتم تخصيص الأرض للمشروعات الصناعية مقابل نصف جنيه للمتر المربع، وللإسكان مقابل جنيه واحد وكان الهدف من ذلك هو تحفيز إنشاء مجتمع عمرانى جديد للخروج من زحام الوادى الضيق الذى لا تزيد مساحته على 5% من مساحة مصر الكلية. وبعد «العاشر من رمضان» بدأ التفكير فى إنشاء مدينة السادات وتم تشكيل مجموعة استشارية مصرية - أمريكية لوضع المخطط العام للمدينة، كان م.صلاح حجاب أحد أعضائها، وكانت هذه اللجنة أيضًا مسئولة عن وضع تصور لإدارة المدينة وغيرها من المدن الجديدة، ويقول حجاب: ومازلت أذكر أن المجموعة المصرية - الأمريكية أعدت ورقة تم إرسالها إلى السيد «نلسون روكفلر» (رجل أعمال ونائب الرئيس الأمريكى فى إدارة الرئيس جيرالد فورد) وكان ذلك فى مارس 1977 ليعرضها الأخير على الرئيس السادات. كانت الورقة تحمل تصورات لإدارة المدن الجديدة خارج إطار ما هو قائم من نظم - باعتبار تلك المدن شيئا جديدا فى مصر، وقد تم عرض الورقة على الرئيس السادات وجاءت تأشيرته عليها كالآتى:(أرى أن يكون لكل مشروع كبير يُقدم هيئة تعطى الشخصية الاعتبارية وكامل السلطة لكى تكون هناك جدية وسرعة فى التنفيذ) ومهر السادات التأشيرة بتوقيعه، وأرسل نسخة منها إلى نائبه ورئيس الوزراء ووزير الإسكان وترتب على هذه التأشيرة إصدار القانون رقم 59 لسنة 1979 بشأن المجتمعات العمرانية الجديدة الذى أنشأ الهيئة المعروفة بهذا الاسم وجعل تبعيتها لوزارة الإسكان. وتوالى صدور القوانين المحفزة على التنمية وتعمير صحارى مصر منها القانون رقم 143 لسنة 81 بشأن الأراضى الصحراوية، وفى مايو 2001 أصدر رئيس الجمهورية القرار رقم 153 بإنشاء المركز الوطنى لتخطيط استخدامات أراضى الدولة ولم تتضمن ديباجة القرار أية إشارة إلى القانون 59 لسنة 1979 بشأن المجتمعات العمرانية الجديدة، وتحددت اختصاصاته (مركز تخطيط استخدامات أراضى الدولة) فى المادة الثانية من قانون إنشائه ومن ضمنها التنسيق بين الوزارات فيما يتعلق بقواعد تسعير الأراضى ونظام بيعها وتحصيل قيمتها وتنظيم حمايتها. ونفهم من كلام م. صلاح حجاب السابق أن المدن الجديدة بقت أراضيها فى منأى عن المركز الوطنى لتخطيط استخدامات أراضى الدولة، وظلت أراضيها خاضعة لهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة تحدد طرق التصرف فى الأراضى أو الوحدات الخاضعة لها سواء بالتخصيص بالأمر المباشر أو القرعة أو المزايدة! (3) وبدأت الحكاية التى يشيب لها الولدان عن النهب المنظم المقنن المدستر لأراضى الدولة، حكايات أشبه بالأساطير وأحاجى على بابا والأربعين «مسئول»، وتسربت الأخبار والتقارير فى عهد مبارك المخلوع نفسه ومنها تقرير للجهاز المركزى للمحاسبات صدر عام 2010 يرصد آلاف المخالفات والتجاوزات على الأراضى المخصصة للزراعة وتقدر ب(3.5 مليون فدان) التى بيعت بأبخس الأثمان لتتحول إلى منتجعات سياحية وقصور للأغنياء وصار طريق مصر إسكندرية الصحراوى عنوانًا على هذا الهدر والفساد وعنوانًا على المرحلة وما تم فيها من النهب والسلب الذى قدرته بعض التقارير بمبلغ 800 مليار جنيه هى قيمة الفارق بين السعر السوقى والسعر الذى بيعت به هذه الأراضى، أما مساحة الأراضى المنهوبة فقد تم تقديرها بما يقرب من 16 مليون فدان (حوالى 67 ألف كيلو متر مربع) وتعادل مساحة 5 دول عربية مجتمعة هى (فلسطين التاريخية وقطر والبحرين والكويت).. هذا هو الواقع الذى فتح فيه ابن المسئول الكبير شقة الإسكندرية على شقة أسوان بعد أن استولى على ما بينهما من أراضى هى فى الأصل مملوكة للشعب. (4) وقامت ثورة فى 25 يناير 2011 وتم بعدها وضع دستور جديد لمصر لم تشر نصوصه بالشكل الكافى والمطلوب لحماية أراضى الدولة من هذا النهب المنظم، وقامت بعدها ثورة أخرى فى 30 يونيو أسقطت الدستور السابق وشرعت تضع دستورًا جديدًا لم يلتفت - حسب علمى - لهذه الثغرة التى تحولت إلى «خرم وحفرة» يتسرب منها لصوص المال العام وناهبو ثروات الشعب، وهو ما دعا م. صلاح حجاب أن يتقدم باقتراح لمادة يتضمنها الدستور نصها كالتالى:(أرض مصر وديعة لدى الإدارة فى مصر محليًا ومركزيًا من أجل التنمية المستدامة فوقها فى إطار مخططات تنموية تحقق رؤى يرتضيها الشعب ويتم التصرف فيها من خلال سياسات تعتمدها الجهة المنوط بها اعتماد المخططات التنموية عند اعتمادها وتتصرف فى ضوئها الجهات صاحبة الولاية على الأراضى والتى تقوم بالتمكين والتحفيز والمتابعة لضمان التنمية فى الأمد الزمنى المحدد بالخطط التنموية). وإقرار مادة دستورية بهذا المنطوق فى هذا الشأن كان كفيلًا بأن يحفز المشّرع فى إخراج القوانين المترجمة لها لضبط ما يتعلق بالتصرفات على أراضى الدولة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه منها، لأن غياب هذه التشريعات الحاكمة الضابطة هو الذى أتاح وسوف يتيح أحكام بالبراءة للمسئولين السابقين الذين نهبوا وسلبوا وسهلوا النهب والسلب ونحاكمهم بقوانينهم التى وضعوها فتخلط ما بين الجرائم السياسية التى ارتكبوها والتعاقدات والعقود «القانونية» التى أبرموها بعد «تستيف» أوراقهم. ونسيت أن أقول لكم إن المهندس صلاح حجاب شاعر العمارة هو شقيق المبدع سيد حجاب مهندس الشعر وعضو لجنة الخمسين التى تضع الدستور الآن.. وعلى الرغم من هذا لم يتم الأخذ بمقترحه الدستورى الذى كان كفيلًا - فى حال الأخذ به وتحويله إلى تشريعات يتم تطبيقها - بإسقاط النكت غير الدستورية عن الفساد والفاسدين.