هذا الرجل حير الجميع وكتبت فيه وعنه العديد من الأبحاث ورسائل الدكتوراه، كما كتب عنه الكثير من الشعراء المعاصرين منهم عبد الوهاب البياتى وأدونيس ونجيب سرور وصلاح عبد الصبور الذى ألف فيه مسرحية شهيرة باسم «مأساة الحلاج»، إنه الحسين بن منصور الشهير بالحلاج نظرا لصنعة والده الذى كان يحلج القطن وينسجه، ولد فى خراسان وتتلمذ على يد العديد من المتصوفة مثل سهل بن الله التسترى والجنيد وغيرهم.. عاش فى بغداد ومنها سافر إلى بلاد فارس والهند وخراسان.. ووصف بأنه أحد رواد مذهب الزرادتشتية والتى تقوم على مذهب التأثير الروحى فى الدين والفلسفة، وكان يؤمن بتوحد الخالق فى مخلوقاته، وكان يرى أن الأهم جوهر الإنسان لا سلوكه، والتصوف عنده لم يكن مسلكا فرديا وإنما جهاد فى سبيل إحقاق الحق. وقد عاش الحلاج فى عصر الخليفة العباسى أبو الفضل جعفر الملقب بالمقتدر بالله، الذى اتهمه بالزندقة وموالاة القرامطة وطلب من وزيرة محاكمته.. فحكم عليه بالسجن لمدة ثمانى سنوات، ثم قضى بجلده ألف جلدة وتقطيع يديه ورجليه وقطع رأسه وحرق جسده وإلقاء رمادها فى نهر الفرات. المهم أن أهل السنة اتهموه بالكفر والزندقة، ولكن مازال لديه أتباع كثر فى الهند وخراسان وبعض البلاد الإسلامية الأخرى يؤمنون بأفكاره ويحتفلون بذكراه، فقد كان للرجل قدرة على الخداع البصرى (السحر) الذى تعلم فنونه فى الهند، حيث كان يمد يده فى الهواء ثم يستردها وقد امتلأت بالدراهم، وكان يسميها (دراهم القدرة) كما روى أنه كان يأتى بالفاكهة فى غير أوانها ويقرأ ما فى نفوس الناس. ولكن مشكلته التى عجلت بنهايته وكانت سببا رئيسيا فى الحكم عليه بالقتل والصلب أنه أنكر ركنا أساسيا من أركان الدين، حيث دعى إلى إسقاط فريضة الحج والاستعاضة عنها بالدوران- وقت الحج- حول حجرة طاهرة فى البيت، والقيام ببعض أعمال الخير مثل إطعام الفقراء وتوزع الأموال عليهم. هذا عن حياته.. أما أشعاره فمن يقرأ ديوانه أو بعض المقطوعات الشعرية، فحدث ولا حرج عن ألغازه وزندقته وهلاوسه.. ومنها: أنا أنت بلا شك فسبحانك سبحانى! وتوحيدك توحيدى وعصيانك عصيانى ولما أجلد يارب إذا قيل هو الزانى؟ فهو لا يعتقد بمعاقبة المخطئ، لأنه- واستغفر الله- كان يعتقد أنه والله شىء واحد.. طبقا لما يسمى بعقيدة الحلول.. مزجت روحك فى روحى كما تمزج الخمر بالماء الزلال فإذا مسك شىء مسنى فإذا أنت أنا فى كل حال هكذا وكأنه يشاهد الله فى ذاته.. ومرة أخرى يقول: أنا من أهوى، ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا فإذا أبصرتنى أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا والغريب أنه كان أحيانا ما يجمح ويخالف ما يقوله مثل: ما حيلة العبد والأقدار جارية عليه فى كل حال أيها الرأى؟ ألقاه فى اليم مكتوفا، وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء! فهو هنا يعتقد بالجبر وأن الإنسان مسير وليس مخيرا. ويقول العديد من المفسرين والنقاد إن كثرة مجاهدة الحلاج لنفسه وأخذها بالشدة وسفره المتعدد ودراسته للكثير من المذاهب والفلسفات السائدة فى عصره.. جعلته يخرج عن المألوف ويخالف أساتذته الذين علموه التصوف، والذين ناقشوه فيما يقول وحاولوا نصحه وإرشاده دون جدوى.. حيث يرى د. شوقى ضيف أن دراسته للمسيحية ومعرفته بنظرية الناسوت واللاهوت اللذين يؤلفان الطبيعة الثنائية للمسيح، جعله يعتقد باتحاد الناسوت وهو الروح الإنسانى فى اللاهوت وهو الروح الإلهى، وبذلك يظهر الله بصورته فى الإنسان.. وهو ما قاله فى كتابه «الطواسين» حيث يقول: سبحان من أظهر ناسوته سر سنا لاهوته الثاقب ثم بدا لخلقه ظاهرا فى صورة الأكل الشارب حتى لقد عاينه خلقه كلحظة الحاجب بالحاجب! والغريب أنه أحيانا ما يكتب شعرا، وكأنه أفاق من سكرته، شعرا كله خشوع، وطاعة واستعطاف وندم وزهد مثل ما قال: دنيا تخادعنى كأنى لست أعرف حالها حظرا الإله حرامها وأنا أجتنبت حلالها مدت إلى يمينها فرددتها وشمالها ورأيتها محتاجه فوهبت جملتها لها ومتى عرفت وصالها حتى أخاف ملالها؟ بل صرح فى أبيات أخرى باسم «الله» سبحانه وهيام قلبه وانصراف همومه وراحت فكرة بذكر الحروف التى يتكون منها اسم الخالق «الله»: أحرف أربع بها هام قلبى وتلاشت بها همومى وفكرى ألف تألف الخلائق بالصفح ولام على الملامة تجرى ثم لام زيادة فى المعانى ثم هاء بها أهيم وأدرى ومع ذلك تجده فى موضع آخر ينكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة ويسقط ركن من أركان الإسلام وهو فريضة الحج: يالائمى فى هواه كم تلوم فلو عرفت منه الذى عنيت لم تلم للناس حج ولى حج إلى سكنى تهدى الأضاحى وأهدى مهجتى ودمى تطوف بالبيت قوم لا بجارحة بالله طافوا فأغناهم عن الحرم ونختم بأجمل ما قاله الحلاج شعرا.. حيث حب الله لا يفارقه وذكره لا يغيب، ومع ذلك فهو يستنكر ما يقوله الناس عنه.. من سفه وزندقة.. فمال الناس وماله.. لهم دينهم وله دينه! والله ما طلعت شمس ولا غربت إلا وحبك مقرون بأنفاسى ولا خلوت إلى قوم أحدثهم إلا وأنت حديثى بين جلاسى ولا ذكرتك محزونا ولا فرحا إلا وأنت بقلبى بين وسواسى ولا همست بشرب الماء من عطش إلا رأيت خيالا منك فى الكاسى ولو قدرت على الإتيان جئتكم سعيا على الوجه أومشيا على الرأس مالى وللناس كم يلحوننى سفها دينى لنفسى ودين الناس للناس *** رحم الله أبو المغيث الحسين بن منصور (الحلاج) وغفر الله له!