لعل من أفضل مفاجآت هذا العام الثقافية والسينمائية، صدور طبعة شعبية، زهيدة الثمن، فى سلسلة مكتبة الأسرة، من الترجمة العربية للكتاب الشهير «أنا فيللينى» من إعداد «شارلوت شاندلر» ومن ترجمة «عارفى حديفة» الكتاب عبارة عن سيرة ذاتية سجلتها شارلوت للمخرج السينمائى الإيطالى الفذ «فيدريكو فيللينى» على مدى ما يقارب من 14 عامًا، التقت به أكثر من مرة فى روما وفى الولاياتالمتحدة، ثم قامت بتفريغ تلك الاعترافات والآراء، تركت الفنان الكبير يتذكر ويحكى ويتفقد ويحلم ويكشف عن نقاط ضعفه وأخطائه، ثم خصصت شارلوت فى نهاية الكتاب الضخم (حوالى 480 صفحة فى ترجمته العربية)، فصلًا أخيرًا تحكى فيه الكاتبة عن بداية تعارفها مع فيللينى، ونوادر هذه اللقاءات، ثم تحكى بطريقة مؤثرة عن مرض المخرج الكبير الأخير حتى وفاته، بل إنها تتابع ردود أفعال أصدقائه، وشهاداتهم عن فيللينى وعصره وأفلامه بعد وفاته. ولد فيللينى عام 1920 فى مدينة إيطالية صغيرة جدًا اسمها زيمنى، ومات فى روما عام 1993 بعد شهور قليلة من حصوله على الأوسكار الخامس، والذى منح له تقديرًا عن مجمل أعماله، وعن كل تاريخه السينمائى الحافل والثرى، قبلها بسنوات حصل فيللينى على الأوسكار عن أربعة أفلام شهيرة أخرجها هى «الطريق» و«ليالى كابيريا» و«ثمانية ونصف» و«أماركورد»، ولكن أهم من الجوائز ذلك الأثر الضخم الذى تركه هذا المبدع الكبير فى تاريخ صناعة الأفلام، لقد نجح فى كسر الطريقة السردية المعتادة، ليحول الفيلم إلى ما يشبه الحلم الساحر، أطلق الخيال والأحلام، وعبر بقوة وبراعة عن نفسه وزمنه ونظرته للنساء وللنجاح وللفشل، أصبح لدينا ما يمكن أن يطلق عليه اسم «الفيللينية» بمعنى النظرة الذاتية التى تقدم مزيجًا من الواقع والخيال، إنها أيضًا ما يطلق عليه سينما المخرج المؤلف فى أرفع نماذجها. يحكى «فيللينى» فى اعترافاته، ببساطة آسرة لا تخلو من السخرية، عن أسرته الصغيرة.. أمه الحازمة ذات التربية الريفية والتى حلمت دومًا بأن يكون ابنها كاهنًا، ووالده البائع المتجول للأغذية الذى كان يطوف أنحاء إيطاليا، ولا يعود إليهم إلا فى إجازات قصيرة، الطفل «فيدريكو فيللينى» كان يتمتع بخيال واسع منذ طفولته، كان مفتونًا بعالم السيرك لدرجة أنه كان يهرب من عائلته وراء فنانى السيرك المتجولين، كما كان «فيدريكو» أيضًا يقوم فى طفولته بصنع دمى وعرائس من الصلصال والورق، ومؤلف لها مسرحيات من خياله، ولكن الطفل الموهوب لم يحب المدرسة على الإطلاق، كان متمردًا يرفض الأوامر والامتثال لروح القطيع، ظل «فيللينى» خجولًا قادمًا من الريف، ولكن نزوله إلى روما، وعمله فى الصحافة وفى مجال الكتابة والرسومات الساخرة المصورة، ثم احترافه رسم الوجوه لكى يستطيع العيش فى العاصمة الساحرة، كل هذه التجارب وسعت من خبراته كما أن زواجه من الممثلة الشابة آنذاك «جولييتاماسينا» بطلة إحدى تمثيلياته الإذاعية، ولقاءه مع المخرج الشهير «روبرتوروسيللينى» فتحا أمامه باب الدخول إلى عالم السينما، أصبح مساعدا للإخراج مع «روسيللينى» بعد أن ساهم فى كتابة الفيلم الشهير «روما مدينة مفتوحة» كما أصبحت جولييتا ماسينا رفيقة عمره وشريكة نجاحه، بعد اختيارها لبطولة مجموعة من أجمل وأهم أفلامه مثل «الطريق» أمام أنتونى كوين، و«ليالى كابيريا» الذى أقتبسته السينما الأمريكية فى فيلم «تشاربتى الحلوة» للمخرج بوب فوسى، وفيلم «جولييتا والأشباح» وفيلم «جنجر وفريد» الذى اشتركت جولييتا فى بطولته مع «مارشيللو ماستوريانى» صديق فيللينى، وبطله المفضل. تبدو شخصية «فيللينى» فى الكتاب على طبيعتها تماما، رجل حياته كلها فى استديوهات مدينة «شينتيشيتا» الشهيرة رؤيته للأشياء مختلفة وملهمة، يقول فى وضوح إن الأحلام هى الحقيقة الوحيدة، يحرص دومًا على تسجيل أحلامه عندما يستيقظ، وكثير من أفلامه تم استلهامه من هذه الأحلام، لاينكر فيللينى أخطاءه ولا نزواته النسائية، كما لا ينكر أن زوجته جولييتا عانت بسببه كثيرا، ولكنها ظلت حبه الوحيد، يكشف الكتاب أيضًا أن الموهبة العظيمة وحدها لا تكفى، هناك الدأب والشغل على الموهبة، كان فيللينى يشاهد آلاف الوجوه لكى يختار منها وجها واحدًا يصلح لدور مساعد فى فيلم من إخراجه، كان يبنى مدينة بأكملها فى الاستديو لكى تخرج المشاهد كما أرادها فى خياله، فى إحدى المرات بنى سفينة فى الاستديو لكى يصور فيلمه «السفينة تبحر» وكان دومًا يخوض حروبًا مع منتجيه بسبب الميزانية، وظل المخرج الكبير يحلم حتى لحظاته الأخيرة بإنجاز فيلم جديد، كما ظل حزينا بسبب مشروعات كثيرة لأفلام لم يجد ممولا لها. كتاب «أنا فيللينى» لا يقل جمالا وإمتاعا عن أفلام صاحبه ساحر السينما والنور الذى انطفأ، كما وصفته صوفيا لورين بعد وفاته.