هذه قصة أخرى من قصص الحب العذرى.. حيث العشق الجميل والغزل العفيف،ولكن طرافتها فى أن العاشق الولهان هذه المرة كان ناسكًا متعبدًا زاهدًا فى حطام الدنيا، متعمقا فى رواية الحديث النبوى مداومًا على قراءة القرآن الكريم.. ولكن لم يكن قلبه معه! وانطبق عليه القول «جاء هواها فصادف قلبًا خاليًا.. فتمكنا».. أو كما قال آخر معاتبًا من أغرته: يا أم عمر.. ماذا فعلت بناسك متوكل متعبد قد كان شمر للصلاة ساعد لولا أن وقفت له بباب المسجد إنه الحب.. أو العشق أو الهوى.. سمه كما شئت وإن لم تعرفه وتجربه فكأنك من حجر جامد من صخر يابس، فالبعض يهوى محبوبته ولا يقاوم لقاءها، كما يشتهى العطشان فى الصحراء.. الماء البارد المثلج. ويقول الشاعر الأحوص: إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا وإنى لأهواها وأهوى لقاءها كما يشتهى الصادى الشراب المبردا فلقد أحب الناسك المشهور بالتقوى والورع بالمدينةالمنورة فى فترة حكم الأمويين عبد الرحمن بن أبى عمار الجشمى والذى اشتهر فيما بعد بالقس، أحب المغنية سلّامة والتى اشتهرت فى تلك الفترة بقراءة القرآن وتلاوة الأشعار، ثم انتقلت إلى الغناء مع شقيقتها ريا، وكان مجلسهما يجمع الشعراء وكبار القوم، وكما فعلت الأديبة مى.. مع كبار الكتاب والشعراء حيث أحسنت معاملتهم جميعا، وكانت ودودة مع الجميع فأحبوها كلهم، فعلت مثلها المغنية سلّامة فقد أحسنت التعامل والود مع الجميع فشغف بها كل من رأها وسمعها. وتصادف أن كان القس عبد الرحمن يسير فى المدينة فسمع غناء سلّامة فاستحسنه وفتن به، ثم داوم على التردد واسترقاف السمع ورأه صاحب المنزل وعرض عليه الدخول فأبى وتمنع ولكنه أقنعه بالجلوس فى مكان يراها منه وهى لا تراه، فدخل فعلا واستمع لغنائها، ثم عرض عليه صاحب المنزل أن يناديها ليحدثها ويسمع منها فتحرج من ذلك فى البداية.. ولكنها جلست أمامه وهى تضرب على العود وتغنى.. وسرعان ما تعلق بها.. ووقع هواها فى قلبه وتحول إلى شاعر غزل.. وكان يعطيها شعره لتغنيه.. ومما قاله: سلام هل لى منكم ناصر أم هل لقلبى عنكم زاجر قد سمع الناس بوجودى بكم فمنهم اللائم والعاذر وبمرور الوقت وتعدد اللقاءات تعلقت به سلّامة وبادلته حبا بحب.. وانتشرت الأخبار.. وشاعت العلاقة بين الناس وأطلقوا عليها سلاّمة القس.. وعاتبوه كيف هو الرجل التقى الورع يقع فى حب مغنية مثل سلاّمة.. فكان يرد عليهم قائلا: قالوا: أحب القس سلّامة وهو الرجل التقى الورع الطاهر قلت: يا قوم لى كبد كأكبادكم يهفوا ولى فؤاد مثلكم شاعر وقد تأثر القس بما كانوا يقولوه الناس عنه، إلى جانب حبه ووجده بسلاّمة.. وبدأت تظهر عليه علامات الإجهاد والنحول.. لأنه لم يكن يحب حبا عاديا كله سعادة وفرح وسرور.. وإنما حبا طاهرا تقيا كله حرمان وألم وضنى وشقاء وكان دائما ما يقول لمحبوبته: أهابك أن أقول بذلت نفسى ولو أنى أطيع القلب قالا حياء منك حتى سُلَّ جسمى وشق علىّ كتمانى وطالا من جانبها كانت سلاّمة تتساءل عن مصير هذا الحب فكلما ظنت أنها أوشكت على النهاية.. مثل كل المحبين.. يتراءى لها فجأة أنه يبعد عنها ويبعدها عنه، وعندما كان يلتقيان.. يتبادلان حديثا عاما ويقدم له بعض أشعاره: سلام ويحك هل تحبين من ماتا أو ترجعين على المحزون ما فاتا أو قوله فى مناسبة أخرى: ألا قل لهذا القلب هل أنت مبصر وهل أنت عن سلاّمة اليوم مقصر وفى أحد اللقاءات اضطرت لمصارحته: أنها والله تحبه فيرد عليها: وأنا والله أحبك، فتتشجع وتقول: وأنا أشتهى أن أعانقك، ويجيبها وأنا كذلك، فتسأله: وما يمنعك؟.. وأن المكان خال.. ويجيبها: يمنعنى أن أنعم بحبك فى الدنيا وأشقى به فى الآخرة فتكون يوم القيامة ممن قال عنهم الله چ ? ? ں ں ? ? ?چ، ثم ودعها منشدا: باتت تعللنا وتحسب أننا فى ذلك أيقاظ ونحن نيام حتى إذا سطع الصباح لناظر فإذا بذلك بيننا أحلام ويعود القس إلى زهده وتقشفه وقراءته للقرآن وروايته للأحاديث،وتستمر سلاّمة فى غنائها وإمتاع مستمعيها بصوتها وأشعار القس.. الزاهد!