فى المجلس القومى لحقوق الإنسان بدأت إجراءات، لو تمت من قبل ما إن كان قد تم لما كنا بحاجة إلى كل ما حدث منذ 30 يونيو الذى فرق المجتمع المصرى. كنت قد طلبت من المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية أن يدرس الآثار المترتبة من الناحية الاجتماعية والسياسية على ظهور التيارات الإسلامية فى الحياة السياسية والحياة العامة بعد ثورة 25 يناير 2011 تمهيداً لتنفيذ برنامج التوافق المجتمعى الذى سنشير إلى ضرورته بعد قليل. تلك الثورة التى يحاول البعض الآن النيل منها، ولكن هذه هى الثورة الوحيدة الحقيقية فى تاريخ مصر كله منذ ظهرت مصر على خريطة العالم، وكانت ثورة على الأوضاع أكثر منها ثورة على أشخاص وكانت تبشر بمصر جديدة قهرت المستبدين واختارت الحرية والكرامة واستقلال الإرادة. ثورة 25 يناير كشفت عن ثلاث ظواهر بالغة الأهمية. الظاهرة الأولى هى تحرر الشعب المصرى من واقعه فى القهر والذل والفقر والخوف، وكان يتعين على القائمين على الحكم بعد الثورة أن يحرروه أيضاً من الجهل والانفلات واسترداد القيم الفاضلة، والتخطيط لذلك فى برامج التعليم والإعلام والثقافة والموارد الطبيعية والبشرية حتى تصل مصر إلى الاكتفاء وأن تعود قائداً للمنطقة فى العلم والحضارة وليس بالأغانى والأمانى، بعد أن كان نظامها إمام الساجدين للمنطقة لأصنام الخارج الذى اخترق مصر من جميع الجهات.الظاهرة الثانية هى ثورة الآمال والتوقعات، ثم كانت الظاهرة الثالثة هى الشباب الذى كان رأس الحرب فى الثورة ولكن قضاياه تراجعت إلى ذيل الاولويات رغم المتاجرة الفجة بقضايا الشباب خاصة وأن بعض الشباب الذى يجيد التسلق قد فرض نفسه فى كل الساحات على أنه يمثل ما يسمى بشباب الثورة فتراجع شباب الثورة الحقيقيين بعد أن ظهر في مزاد الثورات كيانات غريبة تبنتها اجهرة وجهات لاعلاقة لها بنبل الثورات. ولكن مرحلة المجلس العسكرى ثم مرحلة الإخوان المسلمين كانت صراعاً على مصر وليس صراعا من أجل مصر، مهما رفعوا من شعارات. فالنظام السابق ومعه مؤامرات الجار القريب والخارج لإجهاض أعظم ثورة فى تاريخها ازدهرت خلال المجلس العسكرى، حتى إذا جاء مرسى إلى الحكم لم يتمكن من أدوات السلطة وارتكب أخطاء تصل إلى حد الخطايا وأعظمها أنهم فكروا فى السلطة على هذا المستوى دون تبصر فأضروا أنفسهم وأحلوا قومهم دار البوار ولم يصارحوا أنفسهم بالمتغيرات واتساع دائرة النقد والكراهية لهم. ثم تكاتفت جميع القوى فى الداخل والخارج لإخراج الإخوان من السلطة، كل لغاية فى نفسه وكأن إخراجهم هو الميلاد الحقيقى لمصر فانهدم المعبد فوق الجميع رغم أننا كشعب ليس لنا فيما حدث ناقة ولا جمل، وأشاع البعض أن مجرد إخراجهم هو تحرير لمصر وإرادتها من «هكسوس العصر الحديث» حتى إذا برأت مصر منهم انهمرت عليها البركات من العرب والأجانب «حلاوة السلامة» واحتفالا بإخراج هذه الروح الشريرة من جسد مصر الطاهر الذى استرده «أشاوس مصر». المهم أن أخطر هذه الظواهر الثلاث وهى ظهور التيار الإسلامى بكل فروعه وأصوله فى الساحة السياسية، واندفاعه نحو السلطة، بصرف النظر عمن شارك منهم فى الثورة، وكأن الجميع قد خف الخطا نحو الغنيمة التى سقطت بالصدفة فى فنائهم فانفسح الأمل أمامهم وظنوا أن المسألة بهذا القدر من البساطة، ولم يدركوا مخاطر هذه الخطوة ومتطلباتها ومهاراتها والحذر الواجب فى اتخاذها، وظهر لنا التيار الإسلامى وكأنه جسد واحد، وهو وهم كبير. هذا الاندفاع والانتشار السريع للتيارات الإسلامية فى شرايين مصر لقى رد فعل فريقين، الأول هو عموم المجتمع المصرى الذى رحب بهم لأسباب مختلفة ليس أقلها أنهم ظلموا أو بعضهم على الأقل، وأنهم الأقرب إلى الله والأكمل أخلاقا تعويضا عن نظام من العصابات فقدوا الضمير والوطنية ولايرجون الله وقارا. أما الفريق الآخر فهو نظام مبارك وأجهزة أمنه التي أدمنت اذلال كل التيارات فى دولة أمنية بغيضة أذلت كل دعاة الحرية من كل الفرق من التيارات الإسلامية، والتيارات الليبرالية والعلمانية، مع العلم أن اضطراب مفاهيم التيارات الإسلامية والليبرالية والعلمانية وغيرها هى أحد أسباب أزمة مصر بسبب الغش والجهل والتوظيف. وكانت هذه التيارات الأخيرة هى التى ضاقت ذرعاً بالتيارات الإسلامية وهى تنهش الأرض شعبية وانتشارا حتى أن بعض أصدقائى من التيارات العلمانية فكر فى أن يدلس على الناس بتربية ذقنه أو زيارة المساجد خوفا من استقواء التيارات الإسلامية ومبالغتها فى استدعاء الكفر والإيمان، ولم تملك التيارات الأخرى سوى اتهام خصومها بالتخلف وسرقة مصر والسطو على هويتها، وادعى كل أنه هو المتحدث الرسمى باسم مصر والمصريين. وقد ضل هؤلاء جميعاً وغفلوا عن حقيقة أولية وهى أن الجسد المصرى العبقرى مكون من فسيفساء دقيقة تحتويها روح واحدة وخصائص مشتركة هى السبيكة المصرية الجميلة، وهذه المكونات بنسب معينة قد تتحرك هذه النسب صعوداً وهبوطاً ولكن فى حدود معينة ليبقى الوعاء المصرى حافظاً لكل خصائصه وحاضناً لكل مكوناته، فإذا فقد أيا منها فقدت مصر مصريتها، وإذا حاول أحد أن يعيد صياغة هذه السبيكة، فإن الجسد كله ينتفض فى وجهه وهذا هو سر ما حدث يوم 30 يونيو، وهى الرسالة الوحيدة التى قرأتها فى ذلك اليوم أما ما حدث بعد ذلك فهو ترجمة خاطئة للرسالة، واستغلال وعدم توفيق فى ترتيب الآثار المترتبة على الرسالة. بل بلغ من إصرار المصريين على عدم المساس بمصرية مصرأن بالغ بعضهم فى كراهية الإخوان، وهذا هو التفسير المقبول عندى لتجاوز مشاعر البعض حدود المصرية والإنسانية. والدرس المستفاد أن الجسد يمكن أن يثور على عضو فيه يعبث فى مصريته بكل ما تعنيه، ولكن الجسد لن يفرط فى هذا العضو وإلا فقد الجسد مصريته. إن القبيلة المصرية لها شخصية ومواصفات قد يخرج أحدهم عما تواضع القوم عليه ويتجاوز نقطة التماس مع الدين والخارج وأعضاء الجسد المصرى وحرمة الدماء مصرياً قبل أن يكون دينياً، ولذلك فإن ما يحدث اليوم دليل على الحالة السرطانية التى أصابت الجسد المصرى، وتداخل القوى فى سياق هدف يبدو مشروعاً ولكن هذه المشروعية يتم توظيفها لغير صالح مصر والمصريين. يقضى المشروع الذى بدأته ويجب أن تتبناه الدولة بالتركيز على قائمين، القائم الأول هو تعارف التيارات الإسلامية والعلمانية وغيرها على بعضهم البعض فى إطار المصلحة المصرية ثم الحوار بينها لخلق قاعدة مشتركة تسقط منها صراع السلطة، لأنه من العار أن توظف مصر كلها من أجل نزوة السلطة لنفر فيها نشك فى أنهم حتى يحسنون ممارستها، ويدعى كل أنه يموت فى ترابها ويعشق اسمها، والدليل على كذب الجميع أنهم ليسوا مستعدين للارتفاع فوق المؤامرة أو الأنانية من أجل مصر. فالتعارف هو أمر إلهى لقوله تعالى «لتعارفوا» ولم يقل لتباغضوا أو لتناحروا خاصة وأن الله أمر آدم وزوجه أن ينزلا إلى الأرض «بعضكم لبعض عدو» وهى نتيجة طبيعية لكل الصفات السلبية للإنسان فى القرآن الكريم. والتعارف هو أمر حضارى، وقد أشار ميثاق اليونسكو إلى أن الحرب تبدأ من عدم معرفة الشعوب بعضها بعضاً معرفة حقيقية بل وهمية، وقد لعب إعلامنا دوراً حيوياً فى تشويه التجمعات والمجتمعات على مر العصور، وفى مصر حاليا بشكل خاص. ولا مفر من هذه الخطوة إذا كنا حريصين على تجنيد كل القوى لمعارك مصر الحقيقية. وفى هذا الصدد من العار أن تتركز أحلامنا فى إفناء بعضنا بعضا وألا ترتقى هممنا لبلوغ المعالى من الآمال والأحلام وسوف يلعن التاريخ كل من انخرط فى ملهاة الحكم الفانى وضيع آمال أمة عظيمة خاب أملها فى قياداتها وضيعها أطماعهم أو قصور هممهم ولايجوز أن تستقر لدينا مقولة أن هذا الشعب عاش عبداً مقهورا وأن من الظلم أن يمنح الحرية دون التدريب عليها وممارستها. ولمعالجة هذه النقطة تضمن مشروعى أن ننشر الوعى والثقافة لمعالجة التجريف الفكرى والعقلى والثقافى الذى ترك النخبة فى تخبط وترك الشعب فى ظلمات، فأوشك أن يفقد الأمل فى ثورته العظيمة. إن الذين يبالغون فيما حدث يوم 30 يونيو إلى درجة أنها ثورة أفضل من ثورة 25 يناير يدفعهم فى الأغلب سوء النية ولا يطيقون أن يروا شعباً أجمع فى ذلك التاريخ ثم غرق فى 30 يونيو ثم أن القيادة العسكرية وبعض الإعلام وبقايا الساسة هم الذين اعتبروا مصر قد ولدت 30 يونيو أو أنها ولدت للمرة الثانية أو أنها ماتت ثم بعثت. إن مصر لم تمت ولن تموت ، وقد يكون فى قولهم بأن 30 يونيو تصحيح ليناير من زواية معينة بعض الوجاهة ولكن إصلاح ضرس لا يؤدى إلى خلع كل الأسنان أو مطاردة الضرس الفاشل واستبعاده تماماً من جنس الأسنان كما أنه لم يبرر لنا تدخل الجيش وإجراءاته وطلب التفويض لاستئصال هذا الضرس الذى فشل ويصر على البقاء رغم فشله. ثم أليس من العار أن تستجدى مصر حلولا، بعد أن أصبح المجتمع ثلاثة مجتمعات، والمرأة ثلاث نسوة والرجال ثلاثة رجال وانشطر البيت الواحد لأنهم لم يتعلموا أدب الاختلاف. أو يتحمل أحدهم رأى الآخر المخالف، حتى أن الرجل يطلق زوجته ويهجر الابن أباه والأخ أخاه. إن هذه الفتنة كشفت عن إرث النظم الفاشلة السابقة وقصر نظرهم وعدم اهتمامهم بترسيخ قيم الصبر والتسامح وقبول الآخر المختلف فى الدين وطرق العيش والملبس والمنظر، فانقلب المصريون قيادة وشعبا إلى النظر بعين واحدة واعتنقوا المبدأ المشئوم من ليس معنا فهو علينا. لقد تابعت تهافت الباحثين والمتحدثين والكتاب وبقية هذه النخبة التى يحركها الحب والبغض والمصالح وهم يقارنون بين حجم المظاهرات فى الجانبين وإدخال الجيش عنوة فى هذه الملهاة، إما الجيش أو الإخوان، ولم يفكر أحد ما هى المصلحة المصرية فى هذه المعادلة. لقد ضاقت صدورنا وارتددنا على أعقابنا وتخلينا عن مبادئ ثورة يناير وانطلقنا نلعن المخالفين ونحتكر مفهوم الأمن القومى، وويل للمغلوب بعد أن أصبحت القوة المادية تصادر العقل والحرية. لا قيامة لنا بغير التوافق المجتمعى كمشروع قومى ونشر الوعى وقيم الحرية المسؤولة وليس لهو الاطفال فى غيبة الاهل، ولتكن الجدية والمصلحة الوطنية مؤشر كل اعمالنا.