أنت لا تتصرف وفقاً للواقع، ولكن وفق رؤيتك لهذا الواقع، ورؤيتك للواقع الحالى تدعوك لأن تطلب من الآخرين أن يكونوا ملائكة بعد أن ضرب الفساد البر والبحر أما أنت فلا تريد أن تتغير ولو بنسبة واحد بالمائة لأن الأنا عندك أعمتك عن عيوب نفسك وفتحت عينيك على اتساعهما على عيوب غيرك. أنا فقط وكل شىء لى، وأنا أريد أن أقصيك وأجبرك على التسليم برأيى وأمحو شخصيتك ولا أدع لنفسى فرصة للتفكير فى رأيك وأفكارك لأنى أمتلك الحقيقة المطلقة والفهم والصواب الدائم، هذا على مستوى الحوار وعلى المستوى الشخصى أنا شريف طاهر وأنت لص غير شريف أو تنقصه الطهارة، والمسألة قد لا تعدو فى حقيقتها إلا صراعًا على المصالح، أو علة فى النفس ونقصًا فى الشخصية ، والجديد هو المزايدة على العقيدة والإيمان ووصلت المزايدات فى هذا الأمر إلى قناعات داخل كل منا أنه هو المؤمن النورانى الذى يعرف صحيح الدين كما يعرف أبناءه والذى آمن مكر الله وضمن غفرانه ومثوبته أما الآخر المختلف معه فعاق عاص، والكل يرفع الآن شعار:أنا فى الجنة وهو فى النار. هذه هى الحالة التى تحولت إلى ظاهرة مصرية، تغذيها معارك الكراهية العمياء التى تضرب أطناب مصر من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها؟! (1) لقد تجاوزت الأمور مرحلة الاستقطاب الحاد التى بدأت بين الفصائل والخصوم السياسيين والأيديولوجيين قبل أن تصيب باقى المصريين وتدخل مرحلة المرض الاجتماعى من القمة إلى القاع وبالعكس وحتى تداعى بين العامة حكمة مرذولة تشير إلى أننا «شعب فرعون» يخاف ولا يختشى، والمعنى واضح أن ثورة 25 يناير التى منحت المصريين الأمان من سلطة غاشمة قاهرة كانت تمثلها الأنظمة السابقة وأدواتها القمعية، لم يصلح التحرر من هذا القمع حال بعضنا بل على العكس أخرج أسوأ ما فينا!! .. أما أن الخوف هو الذى يردنا عن الخطأ وليس الحياء أو الضمير فهذا حكم قد يكون عاريًا من الموضوعية وليس عليه أى سند علمى، لكن يتصادم مع ذلك الوصول إلى تفسير لما نراه من سلوكيات سيئة فى أماكن العمل والسكن وفى الشوارع والميادين والحارات وبين الأقارب والجيران وعلى صفحات التواصل الاجتماعى من أفعال وأقوال شيطانية وانفلات أخلاقى، فهل تقبل تفسيرى لهذه السلوكيات بأنها رد فعل عكسى لعهود وسنوات الكبت والقهر والذل التى عشنا نتوارثها أجيالًا وراء أجيال؟ وكان هذا قبل أن يأتى من يزرع فينا بذرة التمرد والثورة ثم يمضى يقنعنا أن الثورة وإسقاط النظام الأبوى ومرمغة كرامته فى الوحل وليس فقط التمرد الأناركى على السلطة هو الحل وهو القاعدة وليس الفعل الاستثنائى فى الحياة. (2) الجريمة ظاهرة اجتماعية لا شك فى هذا وهى موجودة فى كل زمان ومكان أما نوع الجريمة وطريقة ارتكابها ومعدلاتها فتعكس حال المجتمع وتشير إلى مرضه أو عافيته، ويكفى أن تطالع صفحة الحوادث أو تتابع معارك الشوارع بين الناس العاديين التى تندلع الآن لأتفه الأسباب نتيجة أحقاد تحتار فى تفسير أسبابها والعنف المبالغ فى ارتكابها والدمار الذى تخلفه فى الغالب لايستقيم كل هذا ولا يساوى بأى حال من الأحوال الأسباب التى تتفجر من أجلها هذه المعارك. أحد أيام الأسبوع الماضى فى صفحة حوادث جورنال الأهرام كان العنوان الرئيسى يحمل بعض تفاصيل لإحدى الجرائم التى تدعو للحزن والألم، وفيها أن رجل أخرج سلاحًا يحمله وصوب رصاصاته نحو شقيقين فقتلهما فى الحال والسبب أن السيارة التى يستقلانها احتكت بسيارته، وفى الخبر أيضا أن الذين شاهدوا الحادث اجتمعوا على القاتل وسلموه للشرطة لكن بعد أن أشعلوا النيران فى سيارته وأحرقوها.. شىء مقرف.. أى غابة نعيش فيها ؟! ومنذ متى كانت سلامة سيارة مهما أصابها من عطب أغلى من حياة إنسان؟! بالفعل حياة المصرى ودماؤه صارت رخيصة عند أخيه المصرى إلى درجة أننا لم نعد نندهش ونحن نتابع أعداد الضحايا من القتلى والمصابين التى تعلن عنها وسائل الإعلام بشكل يكاد يكون يوميًا منذ ثورة يناير، فى مواجهات تتفجر جراء خصومات سياسية أو شخصية أو أعمال بلطجة وعنف عشوائى. (3) وفى تفسير ماحدث على مسرح السياسة وصراع السلطة اللذان حركا الأحداث فترة ما بعد يناير 2011 وإلى اللحظة، فهناك رأى صاحبه طبيب علم النفس د. حسين عبدالقادر يرى فيه أن النخب السياسية بنرجسيتها الغشوم هى أحد أهم الأسباب فيما وصلنا إليه، ولا يستثنى د. عبد القادر فى هذا شخصًا أو فئة، حزبا أو حركة، أو طائفة على اختلاف توجهاتها وأطيافها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار؛ فالجميع قدم بأفعاله صورة مشوهة عكستها الخلافات بينها وما سببته هذه الخلافات من فرقة بين المصريين، استغل السياسيون هذه الفرقة كسبيل لممارسة ضغوطهم وتعويض ضعف أثرهم على الشارع بعامة مع ما فى هذا السلوك من حماقة سياسية أسوأ ما فيها أنها قدمت الغطاء وأتاحت الفرصة لأفاعى النظام السابق لتحرك فلولها وأموالها مستثمرة كل ما فى جعبتها من وسائط مابين بلطجية وأطفال شوارع بل وشباب ثائر يؤجج الإحباط من وارء غضبه ولا نغفل هنا إعلاما ليس فوق الشبهات و..وما أكثر ما يقال من تواطؤ الجميع. (4) ولقد لخص صاحب الرأى السابق خطايا السياسيين الذين يدفعون بمصر إلى الجحيم فى صراعهم على السلطة وكل فئة تحسب أنها صاحبة الحق فى إدارة هذا البلد وأنها تملك له الخير والمستقبل الزاهر، ولا سبيل حقيقيًا للوصول إلى تسوية سياسية حقيقية بين هذه الفصائل والفئات لأنها مثل الأفراد وقادتها مصابون بما أصاب أكثرنا ممن أعمتهم النرجسية وحسابات المصالح، لكن هذا لا يجب أن يجعلنا نفقد الأمل فى المصالحة.. مصالحة حقيقية تبدأ بالذات، وأن يصارح كل منا نفسه بعيوبه وأن يتجاوز قليلا عن عيوب غيره وأخطائه وأن يمنح غيره فرصة لأن يفعل ذلك عبر الحوار وتقديم المثل. وعلى مستوى السياسيين فالمصالحة ليست عقد إذعان يمكن أن يفرضه طرف على آخر، أو يتصور طرف أنه المنتصر لذلك فعلى الآخر أن يرضخ لإرادته.. فبين أخوة الدم والدين والوطن ليس هناك فائز وخاسر، فالكل إما فائز وإما خاسر، ومن يتصور أنه على حق أو لديه حق لا نسأله أن يتنازل عن حقه لدى أخيه لكن نسأله فقط أن يتأكد أن ما يطالب به هو حقه كله أو بعضه وبعد ذلك يكون الحصول عليه والتعويض عنه أمر سهل ميسور. والآن فالأمة تبحث عن هذا الشخص أو الطرف المحايد المقبول من الجميع ليجلس قاضيا بين المتنازعين لكن للأسف حملة التشويه التى طالت الجميع لم تترك بيننا قديسًا.. كلنا باطل.. ولا مخرج أو منجاة مما نحن فيه إلا رحمة الله.