«عند ضعف ما كان سببا فى الصعود يحصل الهبوط والانحطاط ومتى زال ما كان سببًا فى السقوط يحصل الصعود».. إن سبب الانحطاط وتأخر المجتمع يكمن فى التخلى عن الدين.. أو التشبث بدين البدع أما تجاوز الانحطاط فلا يتم إلا بالرجوع إلى الأصل إلى ما كان سببًا فى الصعود.. هذا هو كلام المصلح الشيخ جمال الدين الأفغانى الذى قال: «لابد من حركة دينية وهى اهتمامنا بقلع ما رسخ فى عقول العوام ومعظم الخواص من فهم بعض العقائد الدينية والنصوص الشرعية على غير وجهها الحقيقى وبعث القرآن وبث تعاليمه الصحيحة بين الجمهور وشرحها على وجهها الثابت من حيث يأخذ بهم إلى ما فيه سعادتهم دنيا وآخرة». وعندما تجادل الأفغانى مع المؤرخ الفرنسى رينان سنة 1883 تحت عنوان «الإسلام والعلم» قال الفرنسى: - الديانة الإسلامية مناقضة للعلم ومعادية للعلماء. - المسلم غير صالح بطبيعته لفهم الفكر الفلسفى. وكان رد الأفغانى على الاتهامين: هل الإسلام هو المسئول عن أفعال المسلمين؟ أم أنهم يتحملون مسئولية أفعالهم؟! أما عن عدم فهم المسلم للفلسفة فقد قال الأفغانى: يكفى ما قدمته الفلسفة الإسلامية من تفاعل مع التراث اليونانى والفارسى حتى طبعته بروحها الإسلامية. وبعد 17 عاما تجادل الإمام محمد عبده مع «حانوتو» وزير خارجية فرنسا عندما قال: إن طبيعة الإسلام المحافظة هى سبب تخلف المسلمين؟ وقال عبده: الإسلام برىء مما يلحقه به أعداؤه ولو رجع المسلمون إلى كتابهم القرآن الكريم واسترجعوا باتباعه ما نقدوه من آدابهم لسلمت نفوسهم من العيب وطلبوا من أسباب السعادة ما هداهم الله إليه فى تنزيله على لسان نبيه ومهد لهم سلفهم وخطه لهم أهل الصلاح منهم واستجمعت لهم القوة ودبت فيهم روح الفتوة. يتفق الأفغانى وعبده فى أن الإسلام الصحيح هو إسلام السلف الصالح وهو شرط كل تقدم وأن خلاص العالم الإسلامى من شروره لن يتم إلا بالرجوع إلى الأصل (نص القرآن والحديث). محور وجهات نظر عبده والأفغانى أن العقيدة قيمة عظمى فى الحاضر والمستقبل ولا يوجد أدنى تناقض بين الدين والعلم أو بين السياسة والدين فى بعض الأحيان. معنى ذلك أن السلفية فى مفهومها البسيط ليست جريمة لكن المهم التطبيق فهل هناك من يختلف على أن الكنز الأساسى للمسلم.. كتاب الله وسُنّة رسوله صلى الله عليه و سلم ويعترف عبده بأن هناك بعض من ينظر إلى الدين بعين الجمود.. وقد قال بكل وضوح (الجمود علة الانحطاط).. وهاهوذا يلخص شروط سعادة ورقى الأمم حيث صاغها ولخصها فى أربعة شروط: ? تصفية العقول من لوث الأوهام وكدر الخرافات. ? توجيه النفوس إلى بلوغ أعلى مراتب الكمال. ? التحرر من التقليد والاحتكام إلى العقل. ? تخليص النفوس من شهوة السلطة وتهذيبها بالمعارف الحقة والفضائل السامية. معنى ذلك أن شروط السعادة يمكن تلخيصها فى العقيدة والأخلاق والعقل والتربية. فى المقابل يرد أرباب الاتجاه الليبرالى على الشيخ محمد عبده بقولهم: إن قيم ومنجزات الغرب ليست شريرة حتى يمكن تجاهلها أو التعامل معها بحساسية إنها تجارب وخبرات ويمكن تلخيص أسباب السعادة من المنظور الليبرالى.. بالتزام العقلانية والديمقراطية والحرية ومبدأ التنافس الفردى وتمجيد الإنسان والسعى نحو المنفعة الدنيوية. والرد هنا يأتى من مسلم بسيط: لأن الإسلام الذى يمجد العقل والقرآن الكريم فى مواضع عديدة، «أفلا يتدبرون»، «أفلا يعقلون»، «أولى الألباب».. لا يمكن أن يغفل العقل فإذا وصلنا إلى الديمقراطية وجدناها تتجلى فى الشورى بل فى الصلاة حيث يقوم الرئيس إلى الصلاة ويكون الإمام هو خادمه ولا غرابة فى ذلك.. ويتساوى فى الصف الواحد الوزير والخفير وكلاهما يعفر جبهته فى تراب الأرض ساجدا.. ثم إن أمرهم شورى بينهم وفى مواقف الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه و سلم خير مثال، أما عن الحرية فإن القرآن الكريم يلخصها فى كلمات قليلة ويبلغ بها الحد الأقصى: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) كما أن التعددية والاختلاف من القيم التى تبناها القرآن المقدس بكل وضوح: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) وفيما يخص تكريم الإنسان فقد استخلفه الله سبحانه وتعالى وزكّاه وكرّمه على كافة خلقه. (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) وفى الحديث عن جابر قال: لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة: يا رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة فقال تعالى: لا اجعل من خلقته بيدى ونفخت فيه من روحى كمن قلت له: كن فكان! ثم كيف لهذا الدين الذى كانت الكلمة الأولى فى كتابه المقدس «اقرأ».. كيف يتجاهل العلم أو يرفضه؟ وقالوا للإمام محمد عبده: لابد من فصل السلطة المدنية عن الدينية وكما جاء فى مقالات الكاتب فرح أنطون: لا مدنية حقيقية ولا تساهل ولا عدل ولا مساواة ولا أمن ولا ألفة ولا حرية ولا علم ولا فلسفة ولا تقدم فى الداخل إلا بفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية ولا سلام للدول ولا تقدم فى الخارج إلا بفصل السلطة الدينية عن المدنية وهو أيضا منطق ابن رشد. وكان رد «عبده»: أن الاختلاف بين المنطقين الدينى والليبرالى هو اختلاف أساسه المصالح السياسية والاجتماعية الكامنة خلف المنطقين. وكان الإمام يؤكد تماما ضرورة تطوير المفاهيم والأخذ بالأسباب وعدم الجمود عند أفكار بعينها تجاوزها الزمن مادامت لا تمس ثوابت الدين.. كتاب الله وسُنّة رسوله صلى الله عليه و سلم: وإذا كان هناك من يطالب بتجديد الخطاب الدينى.. فلماذا لا يطالب أيضا بتجديد الخطاب السياسى..؟! وإذا كان هناك من يجادل ويحاول تأويل الآيات والأحاديث.. فلماذا لا يجادل فى مصطلحات وأفكار وأيديولوجيات سياسية هى من صناعة بشر وقابلة للجدل والتغيير. وعلى ذلك يبدو الصراع بين الدين والسياسة غير متكافئ أو منطقى.. الدين من عند الله وهو يحاسب عباده بشأنه.. والسياسة من عند الناس ومن حقهم قبولها أو رفضها أو الطعن فيها والدولة الدينية غير موجودة نهائيا فى التاريخ الإسلامى رغم أن الغرب أقامها فى إيطاليا وإسرائيل. فهل يراجع العقلاء من كافة الأطراف أنفسهم ويدركون أن المصلحة واحدة.. لكن كل طرف اختار أن يصل إليها بطريقته الخاصة.. وهذه محاولة لفض الاشتباك ولكن الأمور ليست بالسهولة أمام ميراث السنين وضغوط من الداخل والخارج ومصالح متشابكة وأسباب أخرى منها المعروف وأغلبها مخفى وغير مكشوف!!