لا تختلف قصة حب جميل بن معمر، وبثينة بنت حبأ عن قصص باقى «العشاق» من بنى عذرة، سوى أنها بدأت مصادفة.. وبعد مشاجرة وعتاب، ثم شعر و حب ! فقد تصادف أن كان جميل بأحد الأودية القريبة من المدينةالمنورة يروى إبله من بئر الماء التى تسقى منها أيضا عشيرة بثينة، وأثناء مرورها مع صاحبات لها نقرها بعير.. فاستشاطات غضبا وأساءت القول لجميل، فتبادلا العتاب.. ثم انصرفت بعد أن أعجب بها جميل.. ووقع فى قلبه حبها.. وبدأ ينظم فيها الشعر ويقول فيها الغزل، وعندما علمت بثينة بذلك بادلته حبا بحب.. وأخذا يلتقيان ويتشاكيان من شدة الوجد.. وعذاب الحب. وبعد حين وشت بها جارية لها وأخبرت أباها وأخاها بما بينهما، وأعلمتهما موعد لقائهما، فتربصا بهما فلاحظا جلوس جميل بعيدا عنها وعلى مسافة تسمع منها حديثه وسمعاه يطلب منها أن تجاذيه على حبه لها، فسألته: بماذا؟ فقال: بما يكون بين المحبين، فأنكرت عليه طلبه، فأخبرها: أنه ما أراد منها قبيحا، إنما أراد أن يختبرها. وأضاف أنه لو كان رأى منها غير ذلك لضربها بسيفه وهجرها إلى الأبد.. ثم قال: وإنى لأرضى من بثينة بالذى لو أبصره الواشي لقرت بلابله بلا، وبأن لا أستطيع، وبالمنى وبالأمل المرجو قد خاب آمله وبالنظرة العجلى وبالحول تنقضى أواخره لا تلتقى وأوائله وعندما سمع أبوها وأخوها ذلك.. انصرفا وتركاهما، فلما يريا منهما ريبة ولا عيبا فهما أبناء عمومة. وأكمل جميل حديثه.. معبرا عن حبه بقوله: لقد قلت فى حبى لكم وصبابتى محاسن شعر ذكرهن يطول فإن لم يكن قولى رضاك فعلّمى هبوب الصبا يابثن كيف أقول فما غاب عن عينى خيالك لحظة ولا زال عنها، والخيال يزول وظلا يتحدثان حتى فاجأهما الصبح.. فسلما وودعا. وكعادة الفتيات عندما تتدلل وتختبر المحب.. فقد حاولت بثينة التقرب من أحد فتيان العشيرة فى وجود بعض النسوة وكأنها تطلب منهن أن يخبرن جميل بما حدث، وعندما علم جميل بذلك.. قال معاتبا: وعدنا كأنا لم يكن بيننا هوى وصار الذى حل الحبال هوى لها وقالوا نراها يا جميل تبدلت وغيّرها الواشى، فقلت: لعلّها ولكن بثينة تمادت فى ذلك.. لعلها تزداد يقينا من حب جميل لها.. خاصة بعد أن علمت ما قاله فيها: ياليتنى ألقى المنية بغتة إن كان يوم لقائكم لم يقدر أو أستطيع تجلدا من ذكركم فيفيق بعض صبابتى وتفكرى يهواك ما عشت الفؤاد فإن أمت يتبع صداى صداك بين الأقبر ورقت له بثينة.. وتواعدا.. وتعاتبا.. فأنشد جميل: لقد خفت أن يغتالنى الموت عنوة وفى النفس حاجات إليك كما هيا وإنى لتثنينى الحفيظة كلما لقيتك يوما أن أبثك مابيا وكما هى عادة العرب فى تلك الفترة.. فبعد أن انتشر شعر جميل فى بثينه وهو ما يسمونه «التشبيب» فقد منعوها من لقائه.. وحذروه.. وهددوه بالقتل إن لم يرتدع، ولكنه لم يمتنع.. وأخذ يقول: فليت رجالا فيك قد نذروا دمى وهمو بقتلى يابثن لقونى إذا ما رأونى طالعا من ثنية يقولون: من هذا وقد عرفونى يقولون لى: أهلا وسهلا مرحبا ولو ظفروا بى ساعة قتلونى وظل جميل ممنوعا من رؤية بثينة مدة طويلة، وكان يستعيض عن ذلك بالمبيت عند شجرة قريبة من حيهم، وأحيانا كان يمتد ذلك إلى ثلاثة أيام متواصلة، وعندما علمت بثينة بذلك.. غافلت أهلها وذهبت إليه، فسلما على بعضهما سلاما حارا ثم جلسا صامتين حتى طلع الصبح فودع كل منهما الآخر.. وقد عبر عن ذلك جميل فى أبيات جميلة منها: وإن تك قد شطّت نواها وقد نأت فإن النوى مما تشت وتجمع وإن يك طول الحب يا قلبى نافعى فقد طالما أحببت والصبر أنفع ولست كمن يفشى على الخدن سره وعندى له فى الصدر سر وموضع وأنسى إذ لاقيتها بخلائها من القول ما قد كنت بالأمس أجمع فيارب حببنى إليها وأعطنى منها المودة أنت تعطى وتمنع وإلا فصبرنى وإن كنت كارها فإنى بها يا ذا المعارج مولع وفى الصبر عن بعض المطامع راحة إذا لم يكن فى الشىء نرجوه مطمع طال المنع.. وتعذر اللقاء.. فلم يجد جميل بدا للخلاص مما يعانيه من عذاب الفراق ولوعة الحب، سوى التقدم لخطبة بثينة من أبيها.. ولكن هيهات فالعرب كانوا يكرهون من يشبب ببناتهم، وتقدم لخطبتها ابن عم لها يسمى نبيه.. فوافق أبوها، ودخل بها على كره منها، وعلم جميل بما حدث.. فبكى بكاء شديدا.. وأخذ ينشد وكأنه يندب: أنت حديث النفس إن كنت خاليا وجل حديثى أنت فى الجد والهزل فلا تقتلينى يا بثين فلم أصب من الأمر ما فيه يحل لكم قتلى ويارب لا تجعل بثينة شقوة علىّ ولا تجعل بهجرانها قتلى