"الحب العذري " مصطلح ينتشر كثيرا، ولكن قليلين من يعرفون ماهو الحب العذري؟، وما هى قصصه؟، وإلاما كان يتمنى هذا الحب، لذا دعونا ننتقل أعزائى القراء إلى زمن بعيد لنتعرف على شكل الحب العذري ورونقه، ومعاناة الحبيب للوصول إلى حبيبته. ومن أشهر قصص الحب العذرى هى قصة "جميل بثينة " حدثت القصة في العصرالأموي وفي عهد الخليفة عبد الملك بن مروان أو الخليفة الوليد بن عبد الملك، كانت بثينة فتاة من"بني الأحب"، وهم من نسب بني عذرة، وكذلك جميل، كان من نسب آخر من بني عذرة هم نسب عامر، وبني عذرة كانت تنزل في البادية العربية شمال الحجاز، في وادي القرى الذي يقع على مقربة من الطريق التجاري بين مكة والشام، وهو واد خصب، استقرت به تلك القبيلة، وكانت مشهورة منذ العصرالجاهلي بالقوة والمنعة والشرف. وقد دخلت بنوعذرة الإسلام في السنة السابقة للهجرة، وشارك أبناؤها في غزوات الرسول وفي الفتوحات الإسلامية . أحب جميل بن معمرالعذري بثينة بنت الحباب وبدأت القصة على التوالى: رأى بثينة وهو يرعى إبل أهله، وجاءت بثينة بإبل لها لترد بها الماء، فنفرت إبل جميل، فسبها، ولم تسكت بثينة إنما ردت عليه، أي سبته هي أيضا.. وبدلامن أن يغضب أعجب بها، واستملح سبابها فأحبها وأحبته، وبدأت السطورالأولى في قصة هذا الحب العذري الخالدة. تطورالإعجاب إلى حب، ووجد ذلك صدى لديها، فأحبته هي أيضا، وراحا يتواعدان سرا.يقول جميل : وأول ما قاد المودة بيننا ** بوادي بغيض، يا بثين، سباب فقلنا لها قولا فجاءت بمثله ** لكل كلام، يا بثين، جواب وتمرالأيام، وسطورالقصة تتوالى سطرا بعد سطر، لقد اشتد هيام جميل ببثينة، واشتد هيامها به، وشهدت أرض عذرة العاشقين يلتقيان ولا يكاد أحدهما يصبر عن صاحبه. وكلما التقيا زادت أشواقهما، فيكرران اللقاء حتى شاعت قصتهما، واشتهر أمرهما، ووصل الخبر إلى أهل بثينة، فتوعده قومها، وبدلا من أن يقبلوا يد جميل التي امتدت تطلب القرب منهم في ابنتهم رفضوها، وأبوا بثينة عليه وردوه دونها، وتوعدوه بالانتقام، ولكي يزيدوا الناراشتعالا سارعوابتزويج ابنتهم من فتى منهم، هو نبيه بن الأسود العذري. وكان جميل من فتيان عذرة وفرسانها الأشداء، وكان قومه أعز من قوم بثينة، فوقف في وجههم فجميل لم يستسلم، بل راح يتحدى أهل بثينة، ويهزأبهم، ويهددهم. ولم يغيرهذا الزواج من الحب الجارف الذي كان يملأ على العاشقين قلبيهما، فقد كان جميل فارسا شجاعا يعتز بسيفه وسهامه، فلم يتأثر حبه لبثينة بزواجها، ووجد السبل إلى لقائها سرا في غفلة من الزوج. وظلت العلاقة بينهما كما كانت من قبل، يزورها سرا في غفلة من زوجها، أو يلتقيان خارج بيت الزوجية، وما بينهما سوى الطهر والعفاف. وكان الزوج يعلم باستمرار علاقة بثينة بجميل ولقاءاتهما السرية، فيلجأ إلى أهلها ويشكوها لهم، ويشكو أهلها إلى أهل جميل. وامتنع جميل عن بثينة مرة أخرى، ومرة أخرى ألح عليه الشوق، ولم يطق عنها صبرا، فعاود زيارتها معرضا نفسه للهلاك. لقد لامني فيها أخ ذوقرابة ** حبيب إليه في ملامته رشدي فقال: أفق، حتى متى أنت هائم ** ببثينة فيها لا تعيد ولا تبدي؟ وبالرغم من ذلك لم يفلح العذريون في حل مشكلة هذا الصراع فى نفوسهم، أو إقناع أنفسهم بأن المسألة قدر مقدور لا يملكون معه شيئا، أو ترويضها على الرضا بالحرمان الذي فرض عليهم، وإنما كانت كلها محاولات يحاولونها، قد ينجحون فيها في بعض الأحيان، ولكنهم في أكثر الأحيان كانوا يخفقون. فنرى في شعرهم الشكوى الصارخة، والأحزان التي يعجزون عن إخفائها، والدموع التي لا يملكون لها كتمانًا، والسخط الذي لا يقدرون على التخلص منه. ونعود لبطل قصتنا مرة أخرى، فنجد أن بعد كل الأحداث التي تناولته فر جميل إلى اليمن حيث أخواله من جذام، وظل مقيما بها حتى عزل ابن ربعي، فعاد إلى وطنه ليجد قوم بثينة قد رحلوا إلى الشام، فرحل وراءهم. وكأنما يئس جميل من هذه المطاردة التي لا تنتهي، والتي أصبح الأمل فيها ضعيفا، والفرصة ضيقة ،وفرقت البلاد بينه وبين صاحبته، ولم يعد لقاؤهما ميسرا كما كان عندما كانت تضمهما جميعا أرض عذرة، فقرر أن يرحل إلى مصر، ليلحق ببعض قومه الذين سبقوه إليها، واستقروا بها، كما فعلت كثير من القبائل العربية التي هاجرت إليها بعد الفتح. وانتهز جميل فرصة أتيحت له في غفلة من أهل بثينة، فزارها مودعا الوداع الأخير، ثم شد رحاله إلى مصر حيث قضى فترة من الزمن لم تطل، يتشوق إليها، ويحن لها، ويتذكر أيامه معها، ويبكي حبه القديم. يقول جميل: ألا ليت أيام الصفاءجديد ** ودهرا تولى يا بثين يعود فنغنى كما كنا نكون، ولكن القدر أبى أن تلتقي الأهواء بعد يأس، أو أن تدرك الحاجات البعيدة ، فلم تطل أيام جميل بمصر، فقد أخذ النور يخبو، ثم انطفأ السراج، وودع جميل الحياة بعيدا عن بثينة التي أفنى شبابه في طلبها، بعيدا عن أرض عذرة التي شهدت أيامهما السعيدة وأيامهما الشقية، بعيدا عن وادي القرى الذي كان يتمنى أن يعود إليه ليبيت فيه ليلة تكتمل له فيها سعادته. يقول جميل مصورا أحزانه الطاحنة التي تحطم نفسه تحطيما حتى ليوشك أن ينهار تحت وطأتها: وما ذكرتك النفس يا بثين مرة ** من الدهر إلا كادت النفس تتلف وإلا علتني عبرة واستكانة وفاض ** لها جار من الدمع يذرف وفي ظل هذا الصراع الحاد بين اليأس والأمل، وفي ظل هذه المحاولات السلبية للسلو والنسيان عاش العذريون مخلصين لمحبوباتهم. Comment *