لقد وهب جميل حياته لبثينة، أخلص لها حبه ولم يشرك به حبا آخر، لا يعدوها إلى غيرها، ولا يصرف هواه إلى سواها، ولا ينقل فؤاده حيث شاء من الهوى، إنما يعيش حياته على ما فيها من حرمان وأحزان، فقد ارتبطت حياته بها، وأصبح كل شئ فيها ملكا لها، واستحالت أيامه ولياليه ذكريات وأحلام، استقرت في شعوره وفي لا شعوره فهو يعيش بها ولها وعليها، ولم يعد في قلبه متسع لمحبوبة أخرى بعد أن ثبت حبها فيه كما ثبتت فى الراحتين الأصابع. وبلغ نعيه بثينة بعد حين، فسقطت مغشيا عليها، حتى إذا ما أفاقت أنشدت هذين البيتين اللذين تعاهد فيهما نفسها على الوفاء لعهده والإخلاص لذكراه، واللذين أودعت فيهما كل ما تفيض به نفسها مرارة ويأسا بعده: وإن سلوى عن جميل لساعة ** من الدهر ما حانت ولا حان حينها سواء علينا يا جميل بن معمر ** إذا مت بأساء الحياة ولينها وتمر الأيام عليها بعد ذلك حزينة باكية، وتتوالى الليالي طويلة ثقيلة موحشة ، تستعيد فيها ذكريات حبها البعيدة، وتسترجع ما مر بها في ماضيها السعيد الذي طوته رمال عذرة إلى الأبد. ويأخذ النور يخبو، ثم ينطفئ السراج، وتودع بثينة الحياة بعيدة عن جميل الذي وهبته حبها وإخلاصها، بعيدة عن أرض عذرة ووادي القرى ووادي بغيض حيث خط طفل الحب أول سطر في كتاب حبهما الخالد. كانت النهاية المحتومة التي لا مفر منها، إنه الموت.ودع العاشق حيا ته على أمل أن يجمع الله بينه وبين صاحبته بعد الموت، عسى أن يتحقق له فى العالم الخالد ما لم يتحقق له في العالم الفاني. أمنية تمناها كل عاشق عذري، وأغمض عينيه عليها. إنها أمنية تمناها جميل كما تمناها عروة بن حزام من قبل حيث يقول: وإني لأهوى الحشر إذ قيل إنني ** وعفراء يوم الحشر ملتقيان فيا ليت محيانا جميعا، وليتنا ** إذا نحن متنا ضمنا كفنان أما جميل فيقول جميل: أعوذ بك اللهم أن تشحط النوى ** ببثينة في أدنى حياتي ولا حشري وجاور إذا ما مت بيني وبينها ** فيا حبذا موتي إذا جاورت قبري ويقول أيضا: ألا ليتنا نحيا جميعا، وإن نمت ** يواف ضريحي في الممات ضريحها فما أنا في طول الحياة براغب ** إذا قيل قد سوى عليها صفيحها وبهذه الأبيات نسدل الستارعلى مأساة أخرى من مآسي الحب العذري الحزينة، ولكن ما نوع تلك اللقاءات المتكررة بين جميل وبثينة ؟ هل كانت لقاءات بريئة كما يؤكد بعض الرواة ؟! ولكن كيف نصدق تلك الروايات وجميل نفسه يؤكد لنا في أشعاره أنه كان يقضي الليل كله بصحبة بثينة مضطجعا بجوارها، أحيانا لمدة ثلاث ليال !! فإذا ما أسفرالصبح أو كاد، تشفق بثينة عليه، وتلح عليه أن ينصرف فيأبى معتزا بسيفه وسهامه ولكنها تلح حتى ينصرف. بعض الروايات تؤكد أن جميلا كان مستهترا ماجنا، وبعضها الآخر يؤكد أنه كان عاشقا ولها، ويذكر الرواة في أحاديثهم عن هؤلاء العذريين أخبارا كثيرة عن هذه العفة وهذا الطهر، ويصفون لقاء جميل وبثينة في أحضان الليل بعيدا عن أعين الرقباء، وكيف كانا يقضيان الوقت يسألها عن حالها وتسأله عن حاله، وتستنشده ما قال فيها من شعر فينشدها، ولا يزالان يتحدثان، لا يقولان فحشا ولاهجرا، حتى إذا قارب الصبح ودع كل منهما صاحبه أحسن وداع، وانصرفا وكل منهما يمشي خطوة ويلتفت إلى صاحبه حتى يغيبا. وفى اللحظات الأخيرة من حياة جميل، وهو فوق ذلك المعبرالضيق الذي يفصل بين شط الحياة وشط الموت، أقسم أنه ما وضع يده على بثينة لريبة، وأن أكثر ماكان منه أن يسند يدها إلى فؤاده. Comment *