كان دبلوماسيا من طراز فريد.. تقلد أرفع المناصب التى استطاع من خلالها خدمة وطنه على أحسن ما تكون الخدمة حتى وصل إلى أعلى درجات سلم الدبلوماسية.. اختاره الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ليكون وزيرا مفوضا فى الخارجية المصرية على رأس بعثتنا البلوماسية فى المملكة العربية السعودية وكان اختيار ناصر له انطلاقا من ثقته المطلقة فى قدراته وحبه وعشقه لمصر والسعودية فى آن واحد وخاصة فى هذه الفترة التى ساءت خلالها العلاقات بين الدولتين الشقيقتين ورأى عبد الناصر أن وجود مثل هذا الدبلوماسى القدير يمكن أن يكون عاملا ملطفا تعاد العلاقة بين مصر والسعودية إلى سابق عهدها من الوثام الذى شابته الخلافات السياسية خاصة بعد حرب اليمن.. وكان ذلك بترشيح من وزير الخارجية آنذاك الراحل الكبير محمود رياض.. إنه السفير أحمد شفيق كامل الذى استطاع بما يمتلكه من شخصية سمحة وصفات إيجابية وجدت قبولا لدى الأشقاء فى السعودية وكان ذلك من العوامل التى أحدثت وفاقا كان مفقودا بين مصر والسعودية.. وكان سببا مباشرا لما شاب هذه العلاقات من فتور كان أقرب إلى القطيعة وذلك على عكس ما هو مأمول من دولتين يأتيان على رأس دول الوطن العربى الكبير من المحيط إلى الخليج. ورغم بزوغ نجم أحمد شفيق كامل فى سماء الدبلوماسية المصرية إلا أنه كان له جانب آخر لا يعلمه عنه الكثيرون وهو الجانب الإبداعى فى حياته كشاعر ملهم تنوعت إبداعاته الشعرية لتؤرخ للأحداث الجسام التى مرت على مصر العظيمة إبان الفترة الناصرية وهنا تجدر الإشارة أن تفوق أحمد شفيق كامل فى التأريخ شعرا لتاريخ مصر المعاصر جاء انطلاقا من انتماءاته القومية والتى لا تنفصل قطعيا عن مهامه الدبلوماسية المستهدفة رفعة مصر وتوطيد علاقاتها القويمة بسائر الدول وخاصة العربية والأفريقية منها وكأن التاريخ يعيد نفسه لنستلهم روح الراحل الكريم أحمد شفيق كامل فى استعادة ما نصبوا إليه من أواصر الأخوة المؤدية إلى المصالح المشتركة بين الأشقاء عربيا وأفريقيا. *** وإذا ما تجولنا فى الحديقة الشعرية الغناء لهذا الشاعر القومى الرائع نجد تحفا غنائية أصبحت لنا جميعا على اختلاف الأجيال نبراسا يذكرنا بالأمجاد التاريخية والتى نحن أحوج ما نكون إلى استدعائها فى مثل هذه الظروف الدقيقة التى يمر بها الوطن فى وقتنا الحاضر.. ومن المفارقات الطريفة أن كل أغنية كتبها أحمد شفيق كامل كانت تخفى وراءها قصة تسجل وقفة تاريخية ترتبط بحدث مصرى فاعل فى حياة المصريين.. وهاهو ذا السد العالى الذى يقف شامخا فى أسوان يتدفق منه الخير لكل ربوع الوطن وقد كانت مراحل تنفيذه اختيارا جادا للإرادة المصرية حين رفضت الولاياتالمتحدة تمويل هذا الصرح الكبير وأوعزت إلى صندوق النقد الدولى لموقف مماثل ليجد عبد الناصر نفسه محاصرا بكل المعوقات التى تحول دون تحقيق هذا الحلم القومى وكانت أولى الخطوات نحو ذلك هو القرار التاريخى بتأميم قناة السويس وكلنا يعلم ما أعقب ذلك من العدوان الثلاثى على مصر واندحر المعتدون وسارت مصر فى طريقها حتى اكتمل بناء السد العالى، ويأتى أحمد شفيق كامل بأغنيته الخالدة التى قام بتلحينها كمال الطويل وتغنى بها العندليب الأسمر مزلزلا أرجاء الدنيا: «قلنا حنبنى وأدى احنا بنينا السد العالى.. يا استعمار بنيناه بأيدينا السد العالى وبأموالنا بإيد عمالنا وهى الكلمة وآدى احنا بنينا». *** ومن الأغنيات الخالدة التى كتبها أحمد شفيق كامل مواكبة لمؤتمر القمة الأول بالقاهرة والتى هزت وجدان العالم العربى على اختلاف أرجائه وكانت وازعا قويا للعمل الوحدوى الذى كانت تستهدفه التجربة الناصرية والتى يقول فيها شاعرنا الكبير.. وطنى حبيبى الوطن الأكبر.. يوم ورا يوم أمجاده بتكبر.. وانتصاراته مالية حياته.. وطنى بيكبر وبيتحرر، والتى لحنها محمد عبد الوهاب لتؤديها كوكبة من كبار مطربى الوطن العربى من مصر (عبد الحليم حافظ وشادية ونجاة)، ومن الجزائر (وردة)، ومن لبنان (صباح)، ومن سوريا (فايزة أحمد). وكأن هذه التوليفة الغنائية تمثل جامعة الدول العربية فى بادرة غير مسبوقة وإن كانت تكررت فى أغنيات أخرى مماثلة.. وتتوالى الأعمال القومية التى كان رائدها الأوحد هو أحمد شفيق كامل ومنها (نسمة الحرية) لعبد الوهاب و(مطالب شعب) و(ذكريات) لعبد الحليم حافظ.. لتصبح أشعار أحمد شفيق كامل ديوانا للتاريخ المصرى المعاصر. *** وتبدأ مرحلة جديدة فى الحياة الشعرية لأحمد شفيق كامل يمكن أن نسميها مرحلة أم كلثوم والتى بدأت عام 1964 حين اقترح عبد الناصر عملا غنائيا مشتركا بين عبد الوهاب وأم كلثوم ويتفق الطرفان ويعقدان العزم على تنفيذ مطلب الرئيس عبد الناصر لتكون رائعة أحمد شفيق كامل «انت عمرى» هى باكورة هذا التعاون الثلاثى والتى وصفها جليل البندارى بلقاء السحاب ووصفها صالح جودت بأنها مؤتمر قمة غنائى، وبالفعل كانت كذلك لما كان لها من نجاح مذهل وقد كان ذلك دافعا لتكرار التجربة وكانت (أمل حياتى) سنة 1965 و(الحب كله) سنة 1971و(ليلة حب) سنة 1973. *** وتمر السنون ليصل الدبلوماسى الكبير والشاعر الملهم أحمد شفيق كامل إلى مرحلة الشيخوخة ليعتكف فى منزله إلا من زيارات خاطفة للأصدقاء وكان على رأسهم إمام الدعاة محمد متولى الشعراوى الذى نصحه بالاعتزال قائلاً له: لقد فعلت كثيرا للدنيا.. فهل فعلت ذلك أيضا للآخرة؟ وكان هذا التساؤل بداية الاعتزال لأحمد شفيق كامل الذى تفرغ لقراءة القرآن والتقرب إلى الله استعدادا للآخرة كما أوصاه الشيخ الشعراوى ليسلم الروح إلى بارئها فى 31 أغسطس 2008 بعد حياة حافلة بعظيم الأعمال امتدت لعمر ناهز الثمانين عاما، حيث ولد فى التاسع من يونيو 1929 بقرية منسا مركز أشمون - منوفية التى شهدت أولى تجاربه الشعرية حين اشتكى إلى الله جدول الضرب قائلا: شكوت إليك يا ربى عدوى جدول الضرب فكم للهم أسلمنى وكم فى الغلب أوقعنى ورغم فصاحة هذه الأبيات إلا أننا لم نشهد له شعرا بالفصحى وحسبه أن كانت بداياته شعرا فصيحا.. رحم الله أحمد شفيق كامل.