وصفه يوما الكاتب الصحفى الراحل جليل البندارى بأنه بائع البطيخ الذى أصبح شاعرا غنائيا ولم يكن يدرى البندارى أن هذا الشاعر سوف يملأ السمع والبصر بأشعاره وجاء مصدر تهكمه أن هذا الشاعر ينحدر من عائلة «شرقاوية» تعمل بتجارة الخضراوات والفاكهة وتعد من العائلات الميسورة آنذاك.. إنه الشاعر الغنائى الكبير مرسى جميل عزيز صاحب الألف أغنية فى بادرة غير مسبوقة لأحد غيره من الشعراء حتى أنه تجول بأشعاره فى حديقة الغناء المصرى ليتغنى بشعره معظم المطربين والمطربات فى مصر، وليس هذا فحسب وإنما تجاوز الحدود المصرية إلى أرجاء العالم العربى لجودة كلماته وذيوعها عبر محطات الإذاعة العربية. ونحن نحتفل بذكرى ميلاده الثانية والتسعين حيث ولد فى التاسع من يونيو سنة 1921 بمدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية وحصل على الثانوية العامة سنة 1940ليلتحق بكلية الحقوق ويتخرج فيها ورغم ذلك عمل بمهنة عائلته تاجرا للخضراوات والفاكهة.. وهنا يأتى الإعجاز فى حياة مرسى جميل عزيز حيث استطاع أن يفرض نفسه شاعرا على نجوم الغناء بالقاهرة وكانت باكورة إنتاجه الشعرى أغنية قام بتلحينها الموسيقار الكبير رياض السنباطى وهو الذى اشتهر عنه أنه لا يقبل إلا الجيد من الكلمات وهنا كانت شهادة ميلاده كشاعر غنائى ولد نجما.. وكانت أغنيته الثانية «يا مزوق فى ورد وعود» تلحين وغناء عبد العزيز محمود الذى كان يحظى آنذاك بجماهيرية واسعة، وقد لاقت هذه الأغنية الشعبية انتشارا كبيرا تأكدت معها نجومية هذا الشاعر الجديد.. لتنهال عليه تعاقدات الملحنين والمطربين معه لأعمال غنائية لما تحمله أشعاره من طابع شعبى محبب تميز به عمن سبقه من الشعراء لتزدحم قائمة إبداعاته بأغنيات صادفت هوى الجمهور المصرى ومنها على سبيل المثال لا الحصر.. لأم كلثوم «سيرة الحب» و«فات الميعاد» و«ألف ليلة وليلة»، ولعبد الحليم حافظ «فى يوم فى شهر فى سنة» و«حبك نار» و«بأمر الحب» و«يامواعدنى بكرة» و«الليالى» و«كامل الأوصاف»، ولفايزة أحمد «أنا قلبى إليك ميَّال» و«يامّه القمر ع الباب» و«ماتحبنيش بالشكل ده»، ولفريد الأطرش «نورا نورا يا نورا» التى قيلت فى الملكة السابقة ناريمان حين زواجها من الملك السابق فاروق وكذلك «لعبة الأيام» وروائع أخرى كثيرة لصباح ومحرم فؤاد ومحمد قنديل وحورية حسن، ومازالت هذه الروائع تحتل مساحة فى وجداننا لما تحمله لدينا جميعا من جميل الذكريات حيث كان زمن الفن الجميل. *** ولما كان يحمله مرسى جميل عزيز -رحمه الله - من ثقافة عالية المستوى جعلته يدخل ميدان الشعر الفصيح رغم شهرته الواسعة فى أشعار العامية وقد يفاجأ الجمهور المصرى بأن هناك روائع غنائية بالفصحى لاقت إعجابه واستحسانه دون أن يدرك أن مؤلفها هو أحد رواد الشعر الغنائى مرسى جميل عزيز فنرى رائعة المطربة اللبنانية فيروز التى تغنت بها منذ أربعة عقود بعنوان «سوف أحيا» والتى يقول فيها مرسى جميل عزيز: يا رفيقى نحن من نور إلى نور مضينا ومع النجم ذهبنا ومع الشمس أتينا أين ما يدعى ظلاما يا رفيق الليل أين إن نور الله فى القلب وهذا ما أراه سوف أحيا ليس سرابا رفيقى أن أيامى قليلة ليس سرا إنما الأيام بسمات طويلة إن أردت السر فاسأل عنه أزهار الخميلة عمرها يوم ونحيا اليوم حتى منتهاه سوف أحيا.. ومن أشعاره الأخرى التى كانت مفاجأة لى تلك التى تغنى بها الراحل محمد فوزى وتحمل بُعدا وطنيا يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن مرسى جميل عزيز كان يمتلك موهبة ثرية جعلته يطرق كل أبواب ونوعيات الأغنية ولم يقتصر على الجانب العاطفى الشائع وإنما تجاوزه للأغنيات الدينية والقومية والوطنية وفى هذه الأغنية الوطنية الرائعة يقول شاعرنا الكبير: بلدى أحببتك يا بلدى حبا فى الله وللأبد فثراك الحر تراب أبى وسماك يزف صبا ولدى بلدى أحببتك يا بلدى ولا يفوتنا فى هذا المجال أن نذكر رائعته الشعرية «لا تودعنى حبيبى» التى تغنت بها الفنانة الراحلة وردة وقام بتلحينها رياض السنباطى وقد تغنت بها أيضًا الفنانة المعتزلة فدوى عبيد تأكيدًا على روعة هذه الأغنية العصماء لما لاقته من إعجاب المستعمين عبر الوطن العربى بأسره. *** وكأنما أراد مرس جميل عزيز بهذه الروائع الفصيحة والتى تقطر رقة وبلاغة أن يدفع عن نفسه تهمة السطحية مما كان يشاع عنه بواسطة مغرضين، نالتهم الغيرة الفنية وبدلا من أن تكون لديهم دافعا للتجويد والمنافسة أطلقوا الشائعات بأنه مجرد «تاجر بطيخ» وها هوذا يتصدى لكل هذه المهاترات باعمال تشى بكل ثقافاته الزاخرة التى تجعله يقف ندا قويا لفحول الشعراء فكان ذلك أبلغ رد يبرز ترفعه عن مثل هذه الصغائر.. ولم تقتصر إبداعاته على فرض الشعر فصيحا وغنائيا عاميا وإنما كانت له إسهاماته فى مجالات أخرى إبداعية حيث التحق بالمعهد العالى للسينما وحصل على دبلومة السيناريو حيث وضع السيناريو والحوار لعدد من الأفلام السينمائية منها: «هذا أحبه وهذا أريده» و«ابنتى العزيزة» وغيرهما من الأفلام التى ساهم أيضا فى تقديم أغنياتها تأليفا وفق المواقف الدرامية لكل فيلم. *** والذى لا يعرفه الكثيرون أن مرسى جميل عزيز كان أديبا مجيدا حيث كانت له إسهاماته فى هذا المجال ومنها الرواية والقصة القصيرة والتى تحول معظمها إلى صور غنائية وأوبريتات إذاعية أصبحت تشكل جميعها تراثا إذاعيا لم يزل يلقى إعجابا من مستمعى الإذاعة رغم مرور عشرات السنين على إنتاجها.. وتمر الأيام ليصاب مرس جميل عزيز بمرض خطير ليسافر على أثره إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية للعلاج ولكنه يعود بعد فترة وجيزة بناءا على رغبته حتى يموت على أرض مصر التى أحبها وأخلص لها العطاء وجعلنا نتغنى بها من خلال أشعاره الرائعة والتى كان آخرها أغنية «من غير ليه» التى تغنى بها محمد عبد الوهاب لتكون آخر أغنياته وكذلك آخر أغنيات شاعرنا مرسى جميل عزيز وإن كان له مما تركه من أغنيات لم تشأ الأقدار أن ترى النور حتى اليوم.. وفى 9 فبراير سنة 1980 يلقى الشاعر الكبير وجه ربه حيث أسلم الروح بعد حياة حافلة بشتى ألوان الإبداع الهادف والبنّاء.. رحم الله شاعرنا الرقيق مرسى جميل عزيز.