يشهد شهر يونيو من كل عام حالة من الجدل والنقاش حول قضية الأجور، التى باتت لغزا غامضا حتى على خبراء الاقتصاد والمالية، بسبب ما ينطوى عليه هذا الملف من تعارض شديد فى المصالح بين فئة صغار العمال والموظفين، الذين يترقبون دوما قيام الحكومة بإصدار قرارات جريئة تحقق لهم حلم الحد الأدنى للأجور، فيما يدافع كبار الموظفين أصحاب الدخول المليونية عن مكتسباتهم، التى وصلوا إليها عبر عشرات السنين من الكد والعمل. وعلى الجانب الآخر من الصورة، تقف الموازنة العامة للدولة غير قادرة على الحركة، لكونها تعانى مرضا لا يرجى شفاؤه، يتمثل فى عجز مزمن يترتب عليه نتائج كارثية للاقتصاد القومي، فالإيرادات التى تحققها الدولة لا تكفى المصروفات المتزايدة. ووفقا لأرقام مشروع الموازنة العامة، تبلغ إجمالى الإيرادات المتوقعة فى العام المالى 2013/ 2014 نحو 700 مليار جنيه، فى حين تصل جملة الإيرادات إلى 500 مليار جنيه، بعجز يبلغ 200 مليار جنيه، وتقدر مخصصات الأجور وتعويضات العاملين نحو 173 مليار جنيه، بزيادة 31 مليار جنيه مقارنة بمخصصات العام المالى الحالى، وذلك لتمويل تثبيت 400 ألف عامل من العمالة المؤقتة، وتعيين 32 ألف عامل فى النظافة والتشجير، و5 آلاف من مصابى الثورة، و15 ألفا من حملة الماجستير والدكتوراة، و40 ألف عامل آخرين. وإذا كانت زيادات بند الأجور فى الموازنة مبررة من قبل الحكومة، فإن هذا التبرير ينطوى على استسهال واضح من جهة الحكومة، لأنها لم تجتهد فى ترشيد الانفاق فى هذا البند، وبدلا من أن تبدأ برنامجا محددا لتطبيق الحد الأدنى والأقصى للأجور، لجأت إلى زيادة مخصصات الأجور بالقدر الذى يسد تقريبا الفجوة التى نتجت عن تثبيت مئات الآلاف من المؤقتين، ممن كان أغلبهم يتقاضون أجورهم من الصناديق الخاصة، لتبقى الأوضاع على ما هى عليه. لعبة الأرقام وبدون مقدمات تعود ظاهرة اللعب بالأرقام، التى كان يجيدها رموز النظام السابق، فالزيادة فى مخصصات الأجور لا تستهدف فى غالبها تحسين مستويات الدخل، بل تمويل هذه التعيينات الجديدة، وأنه على الرغم من أن إجمالى باب الأجور بالموازنة الجديدة يمثل 35% من الإيرادات، بزيادة قدرها 80% مقارنة بالعام المالى 2010/2011، إلا أن غياب الإدارة الرشيدة أفقدت هذه الزيادات مفعولها. ويكمن خلل هذه المنظومة، وفقا للمهندس أشرف بدر الدين، عضو مجلس الشوري، فى أن الأجور الأساسية تستحوذ على نحو 16.4 % فقط من الأجور، فيما تتوزع النسبة الباقية من هذه المليارات على البدلات والمكافآت وغير ذلك من بنود الأجر، وأن هذا الخلل يترتب عليه تضخم فى هذا الباب لغياب التوظيف الأمثل لمخصصاته، وأن هناك الصناديق الخاصة التى تعد بابا سريا للأجور، وأن بند الأجور فى الموازنة «وهمى»، وأن 30 نوعاً من المكافآت والبدلات يقابله 100 نوع غير موجود. ويؤكد هذا الخلل المركب أن اعلانات الحكومة المتكررة الخاصة بتطبيق الحد الأقصى والأدنى للأجور مجرد شعارات، وأنه فى ظل هذه المنظومة يستحيل تحقيق هذا الأمر، وأن تنفيذ التشريعات الخاصة بهذا الأمر يحتاج أولا إلى فك طلاسم هذه المنظومة الجهنمية. ففى الوقت الذى أصدرت فيه محكمة القضاء الإدارى حكما يلزم الحكومة بحد أدنى للأجور قدره 1200 جنيه، تسابق المسئولون لإجهاض هذا المشروع بحجج متباينة، أهمها أن تحديد الحد الأدنى للأجور أمر فى منتهى الصعوبة، لأنه يشمل كل ما يحصل عليه العامل من الجهة، فيما توجد جهات يحصل العاملون فيها على دخول متغيرة فى قانونيتها ثابتة فى قيمتها تصل إلى 1000%، فضلا عن الحجج الشكلية من نوعية أن الحكم لم يحدد المخاطبين به على سبيل الحصر. وتأتى قضية الحد الأقصى للأجور، التى اجتهد المجلس العسكرى فى ديسمبر 2011 فى معالجتها بإصدار مرسوم بقانون لتنظيمه، ليزيد الأمور تعقيدا، لأنه ينص على أنه «لا يجوز أن يزيد مجموع الدخل، الذى يتقاضاه من المال العام سنويًا أى شخص من العاملين فى الدولة الخاضعين لأحكام قانون نظام العاملين المدنيين بالدولة أو العاملين بقوانين خاصة، أو من العاملين بالهيئات العامة الخدمية والاقتصادية وغيرها من الأشخاص الاعتبارية العامة والكادرات الخاصة سواء كان شاغلا لوظيفة دائمة أو مؤقتة أو وظيفة قيادية أو تكرارية أو مستشارًا أو خبيرًا وطنيًا أو بأى صفة أخرى، على 35 مثل الحد الأدنى لمجموع أقل دخل فى ذات الجهة، التى يعمل بها من يشغل وظيفة من الدرجة الثالثة التخصصية أو ما يعادلها أو أدنى وظائف الجهات، التى تنظم شئون أعضائها قوانين خاصة ...». التمييز وينطوى التعقيد على أن القانون خلق نوعا من التمييز، لأنه ربط الحد الأقصى فى أى مؤسسة أو منشأة بالحد الأدنى لدخل شاغلى الدرجة الثالثة التخصصية أو ما يعادلها، فضلا عن أنه تعامل مع وضع فاسد قائم يتمثل فى التشويه غير المنطقى فى بنود الأجور التى يتحصل عليها العامل، التى تتمثل فى المرتب أو المكافأة أو الحافز أو الأجر الإضافى أو البدل أو مقابل حضور جلسات مجلس إدارة أو لجان فى جهة عمله أو أية جهة أخرى، وهذا أمر يستحيل حصره فى أغلب الأحيان. ولم يمنع هذا التعقيد وزارة المالية من مخاطبة كل الوزارات والهيئات العامة ووحدات الادارة المحلية لتطبيق قانون الحد الأقصى للأجور وربطه بالحد الأدني، وفقاً للقواعد التنظيمية التى وضعتها الوزارة. وألزمت هذه القواعد السلطة المختصة بكل جهة من الجهات العامة المخاطبة بقانون الحد الاقصى سواء كان الوزير أو المحافظ المختص أو رئيس الجهة المعنية أو رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة أو غيرها من الأشخاص الاعتبارية العامة ورؤساء وحدات الإدارة العامة بإصدار قرار بتحديد الحد الادنى لما يتقاضاه شاغلو الدرجة الثالثة التخصصية أو ما يعادلها أو أدنى وظائف الجهات، التى تنظم شئون اعضائها قوانين خاصة، وذلك لتحديد الحد الأقصى للدخل بواقع 35 مثل هذا الحد الأدنى.. هذا ما صرح به د. فياض عبد المنعم وزير المالية. ووفقا لهذه القواعد، يلتزم العاملون بالجهات المخاطبة بأحكام قانون الحد الأقصى ممن يزيد دخله على الحد الاقصى أن يقدم إقرارا بذلك إلى جهة عمله فى موعد أقصاه 30 مايو على أن يوضح الإقرار قيمة ما تقاضاه من أموال عامة وما هى المصادر التى حصل منها على هذه الأموال سواء كانت جهة عمله فقط أم جهات أخرى ونوعية هذه المبالغ فى صورة أجر أو مكافأة أو بدل مع تحديد المبالغ الزائدة على الحد الاقصى للدخل مع رد هذا المبلغ الزائد على الحد الأقصى للوحدة الحسابية بجهة عمله. والخلاصة: أن الوصول إلى صيغة ترضى الجميع والمطالبين بوضع حد أدنى وأقصى للأجور يستوجب من الحكومة أن تتحرك بشكل جاد لعلاج التشوهات فى هيكل الأجور، وذلك باقتصار الأجور على بندى الراتب الأساسى وحافز الأداء، ثم العمل فيما بعد على تحديد واضح للحدين الأدنى والأقصى، والتوافق على صيغة نهائية للتعامل مع الصناديق والحسابات الخاصة لتعزيز موارد الدولة.