اجتاحنى شعور بالشفقة الشديدة على تلك الفتاة التي ألقت بنفسها من الطابق الرابع فى حى حدائق القبة بعد أن أمضت مع محامى يومين فى شقته في مقابل مائة جنيه فقط!! أى أن اليوم كاملا مقابله خمسون جنيها، ورغم هذا المبلغ الحقير والفعل الأحقر فقد اختارت أن تنهى حياتها التعسة وتلقى بنفسها من الشرفة لتسقط جثة هامدة، ولا يعرف لها أحد عنوان أو أهل! كثيرا ما اختلف مع من حولى حين أبدى شعورى بالشفقة على فتيات وسيدات دفعهن حظهن العاثر أو فقر حاصرهن أو مرض أخلاقى أدى بهن إلى امتهان أشنع وأحقر مهنة فى التاريخ البشرى حين يبعن أجسادهن ويصبحن داعرات! ورغم أن هذه أحقر مهنة فهى أيضا من أقدم المهن التى تتحول فى بعض البلدان إلى تجارة منظمة ومرتبة ومقننة! كان من حظى أن شاهدت بعض من مظاهرها فى عدد من العواصم العالمية، حتى أن بعضها قد خصصت مناطق كاملة وواجهات زجاجية لعرض البضائع، وقد تناولتها بالتفصيل فى كتابي «رحلات بنت بطوطة»، وكنت أستغرب من هذه الجدية التى تشبه كل حياتهم وهم يعرضون بضاعتهم، لم أكن أشعر بهذه الشفقة ولا هذا الألم الذى أشعر به حين أرى مصرية أو عربية انزلقت إلى هذا المستنقع غير الآدمى! لكننى كنت آيضا أتسأل عن كل ما يجتاح حياتنا من تمسح بالدين ودعوات صادقة أو كاذبة للحفاظ على القيم والاخلاق.. أين هؤلاء أصحاب الصوت العالي الذين يملأون الدنيا صخبا من هؤلاء البائسات ؟ لماذا لا يكفلوهن أو يجدون لهن عملا شريفا أو يكون هناك ملجأ لمن لا ملجأ لها ؟ ففى الغرب حين تمتهن المرأة هذه المهنة فالمجتمع يعتبرها وظيفة كأى وظيفة، ولا تجد صاحبتها بأسا من هذا ! لكن فى مجتمعاتنا الشرقية لا تلجأ امرأة لهذا الانتحار إلا وقد سدت فى وجهها كل أبواب الشرف والكسب بكرامة! خمسون جنيها لليلة الواحدة .. سعر رخيص جداً لفتاة فى العقد الثاني من العمر أن تبيع بها انسانيتها وكرامتها وآمالها وأحلامها وشبابها لتصبح رخيصة هكذا. ولعل غيرها كثيرات، لا يجدن ثمن وجبة طعام واحدة، الناس جوعى من حولنا لا يجدون قوت يومهم ونحن غارقون فى قضايا فلسفية وسياسية هائلة ! دم هذه الفتاة البائسة وغيرها ممن وجدوا في الموت راحة من الذل والهوان والفقر هو فى رقبة أولي الامر، و كل من ترك هؤلاء المواطنين الفقراء من أبناء هذا الوطن حتى ضاقت بهم الحياة وأصبح الموت هو طريقهم الوحيد!