عاد قيس من الحج حزينا يائسا.. وأصابه المرض حتى كاد أن يقتله، فاستنكر أهله حاله، وما أوصل نفسه إليه، فعاتبهم على ما يقولون وأرجع السبب إليهم وخاصة أبويه، وحزنت أمه عليه حزنا شديدا.. وحاولت التسرية عنه، وأرسلت له بفتيات من عشيرته يمازحنه ويعبن لبنى عنده.. فيما هو كأنما لا يراهن ولا يسمعهن، فلما أطلن عنده انتبه لهن وعاتبهن.. مواسيا نفسه.. قائلا: يقر بعينى قربها ويزيدنى بها كلفا من كان عندى يعيبها فيانفس صبرا لست والله فاعلمى بأول نفس غاب عنها حبيبها وفعل أبوه ما فعلته أمه.. حيث طلب من بعض فتيان وفتيات القبيلة أن يعدنه ويحدثنه لعله يتسلى عن ذكر لبنى ولكن دون جدوى.. فأحضروا له طبيبا ليداويه وسأله سبب علته.. فأجاب: عيد قيس من حب لبنى ولبنى داء قيس والحب داء شديد وإذا عادنى فى العوائد يوما قالت العين لا أرى ما أريد ليت لبنى تعودنى ثم أقضى إنها لا تعود فيمن يعود ويح قيس لقد تضمن منها داء خبل فالقلب منه عميد فنصحه الطبيب أن يتذكر مساوئها ومعايبها.. فعندها سوف تنفر منها نفسه ويسلوها عقله ويتداوى من حبها قلبه، ولكن هيهات.. فسرعان ما أنشد قيس: إذا عبتها شبهتها البدر طالعا وحسبك من عيب لهاشبه البدر لقد فضلت لبنى على الناس مثلما على ألف شهر فضلت ليلة القدر وبعدما طال المرض على قيس واشتد أثره عليه، أشار بعض القوم على أبيه أن يزوجه بأخرى.. وعليه أولا أن يطلب منه الخروج إلى أحياء العرب المختلفة والنزول عليهم لعل عينه تقع على فتاة أجمل من لبنى فيعجب بها. ولكن قيس رفض.. فأقسم عليه أبوه أن يفعل، فسار حتى نزل قبيلة فزارة، فرأى فتاة حسناء وكأنها البدر فى طلعته، فسألها عن اسمها.. فأجابته: لبنى، فسقط مغشيا عليه، فصبت على وجهه الماء حتى آفاق وعرفها بنفسه فناشدته بالله أن ينزل عندهم.. حتى حضر شقيقها فأكرمه وحلف عليه أن يقيم عندهم شهرا، وعرض عليه مصاهرته، فرد قيس بأنه مشغول بأخرى.. ويخشى أن يظلم أخته.. وهو معجب بها، ولكن الفتى ألح عليه، وأهله يلومونه أن يعيبهم العرب لذلك، ولكنه استمر فى دعوته قائلا (مثل هذا الفتى يرغب الكرام) وعرض أن يدفع مهر شقيقته، ولكن قيس رفض وتوجه إلى قومه وأخبرهم بما حدث.. فسعدوا بذلك.. وأمهروا الفتاة مهرا كبيرا.. وتم الزواج وأدخلوا عليه زوجته فلم يهش لها ولم يدنون منها، ولم تمتد يده إليها وبعد أيام قليلة طلب الرحيل إلى أهله وترك زوجته عند أهلها. وعلمت لبنى «الحبيبة» بما حدث، فقررت أطاعت أهلها فى الزواج بما يعرضونه عليها، فقد نكث قيس الوعد ونقض العهد، وعندما علم قيس بذلك، حاول الاتصال بلبنى ولكن أهلها منعوها من ذلك وهددوها بقتله أن فعل، وقد أذن لهم الأمير بذلك، فأرسلت إليه تحذره.. فقال: فإن يحجبوها أو يحل دون وصلها مقالة و اش أو وعيد أمير فلن يمنعوا عنى من دائم البكا ولن يذهبوا ما أقد أجن ضميرى إلى الله أشكو ما ألاقى من الهوى ومن حرق تعتادنى وزفير ومن ألم للحب فى باطن الحشا وليل طويل الحزن غير قصير وعندما سمع قيس بزواج لبنى وأنها زفت إلى زوجها بالفعل ركب ناقته متوجها إلى ديار قومها، فاعترضته النساء وعاتبته، وكذلك فعل فتيان حيها.. وطلبوا منه الرحيل، ولما سمعت لبنى ما حدث معه أرسلت إليه رسولا ليسأله: لم تزوج بغيرها؟ فقص عليه قيس ما حدث.. وحلف له بأنه لو رأى زوجته الجديدة بين النساء ما عرفها.. فلم تتكحل عينه برؤيتها.. ولا كلمها ولا نظر لها.. فأخبره الرسول بأن لبنى مازالت على العهد.. فأرسل معه بعض أبياته يقول فيها: أصونك عن بعض الأمور مضنة وأخشى عليك الكاشحين الأعاديا تساقط نفسى حين ألقاك أنفسا يردن فما يصدرن إلا صواديا وبين الحشا والنحر منى حرارة ولوعة وجد تترك القلب ساهيا وعندما علم زوج لبنى بما بينهما من مراسلات ورسل وأشعار أنبها على ذلك.. فغضبت.. وأخبرته أنه كان يعلم بزواجها من قيس وأنه أكره على طلاقها.. وما تزوجته هو إلا حماية لقيس من القتل! ومرت الأيام.. وعاود المرض قيس، وأصبح لا يفيق من غشيانه، وعندما كان يفيق.. لا يفتك يذكرها ويردد: وإن تك لبنى قد أتى دون قربها حجاب منيع ما إليه سبيل فإن نسيم الجو.. يجمع بيننا ونبصر قرن الشمس حين تزول وأرواحنا بالليل فى الحى تلتقى ونعلم أنا بالنهار نقيل وتجمعنا الأرض القرار وفوقنا سماء نرى فيها النجوم تجول ولقد بلغ أهل زوجته الثانية خبره.. واستمرار علاقته بلبنى الأولى.. فكتبوا إليه يعاتبونه، فقال لرسولهم: إننى مشغول عن كل أحد.. وأبلغ أخاها أننى فوضت الأمر إليه فليحكم فيه بما يرى.. ورفض الفزارى أن يفرق بينهما، ولم تلبث شقيقته أن ماتت! ويقول الرواة إن الحسين بن على شقيق قيس فى الرضاعة تدخل هو وشقيقه الحسن وطلبا من زوج لبنى تطليقها وعوضوه عن ذلك بمال كثير، ثم طلبا من أباها بأن يردها إلى قيس.. ففعل.. وأتقى الشتيتان بعد أن ظن كل الظن أن لاتلاقيا، ولكنها سرعان ما ماتت أيضا! فتتبعها قيس فى جنازتها يندبها ويبكيها ويقول: ماتت لبنى فموتها موتى هل تنفعن حسرتى على الفوت وسوف أبكى بكاء مكتئب قضى حياة وجدا على ميت ثم أنكب على القبر نائحا حتى أغشى عليه.. فحمله أهله إلى منزله.. فما مكث غير قليل.. عليل لا يفيق حتى مات ودفن بجوارها.. رحمة الله على الثلاثة.. قيس ولبنتاه.