حزنت لبنى حزنا شديدا بعد طلاقها من قيس ورحيلها إلى ديار قومها، وكانت دائما ما تسأل عنه كل من يأتيها من عشيرته.. وتطلب منهم أن يرددوا عليها أشعاره.. وهى تبكى على ما حدث لهما.. وتذكرت ذات يوم قوله فى غراب البين (غراب أسود صغير). ألا يا غراب البين قد طرت بالذى أحاذر من لبنى فهل أنت واقع وأمرت غلامها بأن يصطاد كل غراب أسود يراه.. وذات يوم جاءها بأربعة غربان، فأخذت تضربهم.. وأمسكت بأحدهم فنتفت ريشه وهى تقول: لعمرى لقد صاح الغراب بينهم فأوجع قلبى بالحديث الذى يبدى فقلت له: أفصحت، لا طرت بعدها بريش فهل للقلب ويحك من رد وأخذت الثانى وكتفته وشدت رجليه بخيطين وباعدت بينهما، وهى تخاطبه: اتبكى بلا دمع وتفرق بين الناس بلا حق، فمن أحق منك بالقتل الآن.. ثم تنشد: ظعن الذين فراقهم أتوقع وجرى ببينهم الغراب الأبقع فزجرته أن لا يفرخ بيضه أبدا ويصبح واقعا يتفجع إن الذين نعيت لى بفراقهم هم أسهدوا ليلى التمام فأوجعوا ثم أخذت الثالث فنتفت ريشه أيضا ثم ضربته حتى مات وهى تبكى وتقول: ألا يا غراب البين لونك شاحب وأنت بلوعات الفراق جدير فبين لنا ما قلت إذا أنت واقع وبين لنا ما قلت حين تطير فإن يَكُ حقا ما تقول فأصبحت همومك شتى والجناح كسير ولازلت مكسوراً عديماً لناصر كما ليس لى من ظالمى نصير وجاءت بالرابع وكسرت جناحه.. وأخذت تضرب فيه وتردد قول قيس: لقد نادى الغراب ببين لبنى فطار القلب من حذر الغراب فدخل أبوها عليها وهى فى تلك الحالة، وسألها لماذا تفعل ذلك؟.. فأجابته أن قيس دعا عليهن بالوقوع فلم يقعن.. فقال لها إنك وقيس تظلمان الغربان.. ألم تسمع قول القائل: نعب الغراب برؤية الأحباب فلذاك صرت أحب كل غراب قالت يا أبى ليس البيت كما قلته وإنما هو كالآتى: نعب الغراب بفرقة الأحباب فلذاك صرت عدو كل غراب فتركها والدها وشكاها لأمها من سوء فعلها وقولها وحزنها وحسرتها، أما قيس فقد عان من لوعة الفراق ولم يستطع نسيان لبنى.. وظل يناجيها بأشعاره.. ومنها: أحبك أصنافا من الحب لم أجد لها مثلا فى سائر الناس يوصف فمنهن حب للحبيب ورحمة بمعرفتى منه بما يتكلف ومنهن أن لا يعرض الدهر ذكرها على القلب إلا كادت النفس تتلف وحب بدا بالجسم واللون ظاهر وحب لدى نفسى من الروح ألطف وأحيانا كثيرة ما كان يذهب للنوم مبكرا لعلها تأتيه فى المنام.. فيمتع عينه بالنظر إليها.. ويسعد بحديثها وحلو كلامها.. وفى ذلك قال: وإنى لأهوى النوم فى غير حينه لعل لقاء فى المنام يكون تحدثنى الأحلام إنى أراكم فياليت أحلام المنام يقين شهدت بأنى لم أحل عن مودة وأنى بكم لو تعلمين ضنين وظل دائم التطلع إلى أيامه السابقة معها.. لائما لنفسه على ما فعل بطلاقها قائلا: اتبكى على لبنى وأنت تركتها وكنت كآت حتفه وهو طائع ألا إنما أبكى لما هو واقع فهل جزعى من وشك ذلك نافع وما كل ما منتك نفسك خاليا تلاقى ولا كل الهوى أنت تابع نهارى نهار الوالهين صبابة وليلى تنبو فيه عنى المضاجع وقد كنت قبل اليوم خلوا وإنما تقسم بين الهالكين المصارع ولما أضناه الحب.. واشتد به الوجع.. وهزل جسده اصطحبه بعض رفاقه إلى ديارها لعله يحظى بنظرة أو لقاء، فلما وقعت عيناه عليها سقط مغشيا عليه وعندما أفاق أخذ يقول: الله يدرى وما يدرى به أحد ماذا أجمجم من ذكراك أحيانا لا بارك الله فيمن كان يحسبكم إلا على العهد حتى كان ما كان أن تصرمى الحبل أو تمسى مفارقة فالدهر يحدث للإنسان ألوانا وبعد حين أشار عليه بعض القوم أن يذهب إلى الحج لعل الله يخفف عنه ما يعانيه، ولكن تصادف أن لبنى أيضا ذهبت للحج هى الأخرى.. فرأها فثبت مكانه مندهشا.. ولم ينطق وعندما ابتعدت عنه أخذ يبكى ويقول: ويوم مِنَى أعرضت عنى فلم أقل بحاجة نفس عند لبنى مقالها وفى اليأس للنفس المريضة راحة إذا النفس رامت خطة لا تنالها إذا طلعت شمس النهار فسلمى فآية تسليمى عليك طلوعها بعشر تحيات إذا الشمس أشرقت وعشر إذا أصفرت وحان رجوعها *** وإلى الأسبوع القادم.. إن شاء الله