فى أحد أفخم فنادق منتجع رأس سدر، وفى قاعة تطل على المياه الفيروزية للبحر الأحمر الممتد على مرمى البصر اجتمع مايزيد على ثلاثين من المفكرين والكتاب والصحفيين والأزهريين بدعوة من الهيئة القبطية الإنجيلية يناقشون مشكلة تحديث مصر. وبين زحام الأفكار والآراء لاحظ الصحفى الشاب أن هناك بعدا استيراتيجيا هاما فى المسألة غائبا عن الحضور الذى ينتمى أغلبهم للتيار الليبرالى (اليمينى واليسارى) فرفع يده وطلب الإذن بالكلمة فقال يسأل: «وهل يتركنا أعداؤنا فى الغرب وإسرائيل ننجز مشروع التحديث أو نمضى فى هذا الشوط إلى آخره. وتصور الشاب أن ما طرحه شئ مهم لكن ردود الأفعال المتجاهلة من مدير الجلسة والوجوه التى أشاحت عنه سريعًا أصابته بشئ من الإحباط لولا تعقيب من عالم جليل ذكّر الحضور فيه بتاريخ الغرب الاستعمارى مع مشاريع النهضة العربية والمصرية من محمد على إلى جمال عبد الناصر. ( 1) لم يكن الشاب قد اطلع بعد على أدبيات الليبراليين الجدد الذين بعثوا من رقاد وغفوة السنين مع بداية التسعينيات من القرن الماضى وبالتزامن مع ضرب العراق فى حرب الخليج الأولى ومن بعدها مؤتمر مدريد للسلام واتفاقيات أسلو.. ولو عرف الشاب لاستنطق حال الحضور أو سمعهم يقولون فى أنفسهم: «آن الآوان أن نتوقف عن التعلل بالصراع العربى الإسرائيلى أو التذرع بمقاومة الخطر الاستعمارى المزعوم.. كنت أنا صاحب السؤال ولا أتذكر على وجه الدقة تاريخ انعقاد مؤتمر التحديث لكنه على أى حال كان فى الفترة الواقعة ما بين حرب الخليج الأولى والثانية. ( 2) ويجب هنا أن أتوقف عن الاسترسال قليلا وأصل ما انقطع فى اللحلقات السابقة من السرد التاريخى لسيرة الليبرالية، فى الغرب وفى شرقنا. فى الأول كان القرن التاسع عشر هو العصر الذهبى لليبرالية الغربية الكلاسيكية ومع دخول القرن العشرين بدأت الليبرالية حال انتكاسها على مستوى التطبيق.. هذه الانتكاسة التى وصلت إلى حد الكارثة مع كساد عام 1929 الذى اشتهر فى أوروبا ب«الكساد العظيم» بسبب انتشار البطالة ووصول طبقات المجتمع الأوروبى إلى حافة الموت فى غياب ضمانات صحية وتعليمية وغيرهما؛ الغريب والمدهش أن هذا التاريخ نفسه (الثلاثينيات من القرن العشرين) كانت فيه الليبرالية تتمدد وتنتعش فى مصر بفعل فاعل، يسعى للتخديم على المشروع الصهيونى فى فلسطين، ومع الأربعينيات ونشوب حرب فلسطين واستكمال مخطط قيام الدولة العبرانية انتبه الوطنيون المصريون للكارثة التى قادتهم إليها أفكار ونخب الليبرالية السياسية وزاد من الإحساس بالأزمة الحال السيئة التى وصلت إليها الحياة الحزبية والممارسة السياسية وزاد من الإحساس بعمق هذه الأزمة فساد نظام الحكم الممثل فى الملك وحاشيته، وهبوط الأسهم الشعبية لحزب الوفد فى سنوات مابعد حادث فبراير 1942 الذى أجبر فيه المستعمر البريطانى الملك على أن يقبل تشكيل الوفد للوزارة، هذه الأخبار وأشباهها التى قادت إلى حركة الجيش فى يوليو 1952 واستيلاء العسكريين على السلطة ودخولهم فى صراع ضد الاستعمار والرأسمالية العالمية.. وفى وقت كان فيه مزاج العالم الثالث الذى ننتمى إليه يتحول نحو النظرية الاشتراكية بحثا عن عدالة اجتماعية مفتقدة فى الليبرالية التى تقوم على الحرية الاقتصادية وآليات السوق وتخلى الدولة عن وظيفتها الاجتماعية.. فعلنا هذا دون أن ننتبه إلى أننا نستورد سلعة أيدلوجية منتجة أيضا فى الغرب.. لماذا لأن التغيير فى شرقنا المنكوب تقوده وتدفع إليه دائمًا الأنظمة وليست الشعوب. وبإنهيار الاتحاد السوفيتى وتفككه نهاية الثمانينيات من القرن الماضى وصعود أمريكا لتأسيس نظام امبراطورية القطب الواحد بدأت دورة حياة جديدة فى عمر الليبرالية الغربية، ومؤسساتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الأممالمتحدة والبنك والصندوق الدوليين ومنظمة التجارة العالمية ومؤسسات المجتمع المدنى هذه الأذرع الإخطبوطية التى تحركت أطرافها تقبض على الأنظمة والشعوب تساندها آلة عسكرية وإعلامية جبارتين، وشركات أسطورية تتجاوز اقتصادياتها، اقتصاديات بعض الدول، وبدا الأمر لبعض الأغبياء وكأن التاريخ قد توقف فعلا عند أقدام هذه الحضارة المتوحشة وأنه لا فكاك ولا خيار للشعوب والبلدان المأزومة إلا أن تستسلم لإرادتها لأن البديل بنظرها هو الانتحار. ( 4) ونعود إلى البعث الجديد لليبرالية العربية والمصرية بداية حقبة التسعينيات بما تحمله من ضربات موجعة للمشروع القومى العربى لعل أبشعها الغزو العراقى للكويت واحتلالها بإيعاز وتشجيع غربى هدفه تهيئة المنطقة لاستقبال غزوة استعمارية جديدة تؤسس لواقع جديد فى الشرق الأوسط وتنهى صراعًا ممتدًا فى التاريخ مع الإسلام وقيمه، ليس فقط كمشروع دولة ولكن كمشروع للحياة. وشأن أى معركة لابد أن يسبقها تمهيد وضربات استباقية وإجهاضية هى فى الحقيقة لم تتوقف - ضدنا بدأ الغرب معركته فى تجهيز طابوره الخامس فى بلادنا وبذر أفكاره فى تربتنا التى أجهدتها ديكتاتورية وفساد حكامها ونخبها السياسية التى تورطت فى زواج آثم مع رأس المال، وكان جزءًا كبيرًا من هذا الوقع مخطط له ومارست مؤسسات الغرب ضغوطات كبيرة على الأنظمة العربية للقبول والعمل فى الإطار المخطط على سبيل المثال وليس الحصر ضغوطات البنك والصندوق الدوليين لإعادة هيكلة الاقتصاديات فى الدول المقصودة بالتغيير ومنها مصر للقبول بتخلى الدولة عن الدعم واللجوء لسياسة الخصخصة والتخلى عن الأصول الاستيراتيجية لصالح شركات وأفراد فى الداخل والخارج مرتبطين بالمشروع الغربى وأهدافه. وعلى المستوى السياسى كان شعار التحول الديموقراطى هو سلاح الغرب وعنوان المرحلة لاختراق الأنظمة والشعوب العربية، وكان الشعار بمثابة رغيف الخبز الذى يلوح به الغرب لجائعى الديموقراطية العرب.. ولا يمكن أن تقول لجائع لاتمد يدك لطعام ربما يكون مسمومًا.. وقبل أن ننتهى من هذه الحلقة اسمحوا لى أن أنقل لكم ماكتبه بشير موسى نافع عن تيار الليبراليون الجدد الذى اندفع نحو الحضن الأمريكى مع البعث الثانى لليبرالية العربية، كتب: «يضم التيار الليبرالى العربى عشائر متباينة الأصول من مثقفين وكتّاب ورجال سياسة وتجارة بعضهم يعود فى أصوله إلى الأحزاب والمنظمات الماركسية التى انتعشت فى الستينيات والسبعينيات ثم سرعان ما أصاب أغلبها الانقراض والعزلة بفعل الاندحار العالمى للمعسكر الشيوعى وهؤلاء هم أكثر الليبراليين العرب دوجمائية وعدمية إذ ربما تحركهم دوافع الإحساس بالذنب تجاه الماضى الماركسى العبثى والرغبة فى تطهير الذات وتبرئتها من ذلك الماضى ولكنهم لسبب أو لآخر عجزوا عن التحرر من منهجية القراءة الأحادية الأيديولوجية للواقع». ووصف الكاتب الأخيرين بأنهم أكثر الليبراليين العرب جهلا وكسلا ذهنيا، وجهلهم بالنموذج الغربى الذى يتبعونه أكثر من جهلهم بالتجربة التاريخية العربية الإسلامية التى ينتمون إليها.. هناك آخرون أيضا أشار إليهم نافع بأنهم أصحاب مصالح تجارية وسياسية طفوا على الساحة العربية بفعل الانقلابات المفاجئة فى الاقتصاد العربى خلال العقود الثلاثة الماضية، وبفعل السمسرة التجارية أو السياسية.