بقلم: ناصر السهلي كاتب عربي – ممثل "كتاب بلا حدود " الدانمارك
ربما يُسجل التاريخ للسنوات الاخيرة إنتعاشا جديدا لحالة التوتر التي عكست علاقة العرب – الملسمين بالغرب، فكل "زلات اللسان" الصادرة عن ساسة ورجال دين غربيين شكلت "سوء فهم" من جهة العرب.. في مقابل سوء الفهم هذا كانت الكاتبة البريطانية مارتينو تعتبر التوتر العربي ، أو ردود أفعالهم على ما يُثار بحقهم، كانعكاس لطبيعة الشرقيين، تلك الطبيعة التي تجعل منهم أطفالا حتى الان... وهذا هو الاقتباس الحرفي لما جاء في كتابات تلك الكاتبة..
إن القرون الوسطى شهدت فيضا من كتابات تتسم بحالة من التوجس والحذر والخوف من حضارة عربية قوية، تماما كما نشهد اليوم سموما من الكتابات الواضحة ولكن هذه المرة في ظل ضعف عربي واضح . العصر الاستعماري الغربي كسر تلك القاعدة التي إرتكزت عليها معظم قراءات هؤلاء النمطية للعربي المتفوق والمتطور مقابل تأخر وتراجع الفكر الغربي الذي كانت الكنيسة تعتبره ضربا من الزندقة لما شكله من خروج على النصوص المقدسة ولسلطتها المطلقة ... حتى أنها حاربت وبشكل ضروس ضد تغلغل فكر ابن رشد للابقاء على تلك السيطرة الحديدية للكهنوتية التي بقيت تعتبر الارض مسطحة رغم ان العرب قدموها بيضاوية قبل 300 عام من الحكم على غاليلو..
مع بداية العهد الاستعماري (تفكيرا قبل التنفيذ) مهدت كتابات ودراسات غربية من بنات افكار اساطين الفكر الغربي امثال ريتشارد بورتون لفكرة الاستخفاف ودحر العرب... الفكرة القائمة على انتاج عقلا غربيا يقبل بممارسة اوربا دورا ابويا رعويا تجاه العرب الذين صنفوا بالتأخر والسلبية وعدم الرشد مما يدعو الى حاجة رعايتهم من هذا الغرب الاوربي الذي كان يمهد لفترة الاستعمار اللاحق الذي عانى منه العرب شرقا وغربا..
الربط بين الحاضر الذي يشهد تكرارا من هذا النوع التنظيري والفكري الغربي مع قضايا العرب إن كان عبر التدخل في أدق التفاصيل الجيوسياسية العربية أو حتى بالتدخل المباشر هذه الايام بالحياة اليومية للانسان العربي تحت حجة "مكافحة التطرف" لصالح الاعتدال بما يحمله ذلك من تغيير شامل للعقل العربي ليكون طيعا وقابلا لرؤية الغرب في علائقه مع ذاته والاخر، هذا الربط يعيدنا دون شك إلى إستخدام ما ذهبت إليه مارتينو عن التوتر العربي العاطفي وردود افعاله على الكثير من الامور غير العادلة التي لا يمكن حتى للحيوانات قبولها او السكوت عنها ... في هذا الاطار التأسيسي الحديث الذي تتزعمه مجموعة اليمين الامريكي المحافظ وبعض الدول الاوربية بحثا عن "شرق أوسط جديد أو كبير" للولوج إلى إعادة إنتاج شرق يتناسب و الاطماع الغير خفية في هذه المنطقة الاستراتيجية من خلال مشاريع يمكن لسايكس- بيكو أن يكون ثانويا مقابل ما تلهث لتحقيقه مجموعات اليمين الغربي.. في هذا الاطار يمكننا العودة السريعة لما كتبه وقدمه الكاردينال نيومن في القرن التاسع عشر حين اعتبر العرب ضحية للهيمنة التركية وبأن حال العرب انحدر منذ نهاية عصر الدولة العباسية، ومقارنته بخطاب بوش وبلير عن العرب الذين يريان لهما أن يتحررا مما يرونه شرا متمثلا تارة بأنظمة لا تتفق وقرائتهما للمستقبل العربي المرغوب وتارة أخرى بالتعمية على جذور الاشكاليات العربية والقفز إلى إستنتاجات خطابية وعملاتية تحط من قدرة وقيمة الانسان العربي على إختيار التغيير الذي ينشده بعيدا عن دعم الغرب لتلك الانظمة التي تحكمه وتعد عليه أنفاسه ..
كلام الكاردينال نيومن لا يختلف كثيرا عن كلام بوش ورامسفيلد وبيرل وبلير وبيرلسكوني او ازنار او راسمسون الدانماركي.. ففي ظاهر الكلام يبدو تعاطفا مع العرب وإحتراما لهم... لكنه وكما كان كلام نيومن يؤسس للمخطط الغربي الاستعماري اللاحق لاستخدام العرب كأدوات لتفتيت الامبراطورية العثمانية، فإننا أمام كلاما وتفكيرا أكثر مباشرة لا يختلف في قشوره عن الكذب الذي مارسه الغرب مع زعماء عرب معينيين لتوحيد العرب واعتبارهم امة واحدة في دولة واحدة وهو ما خلق جوا من الاستكانة والركود العربيين على وعود فارغة أفقدت العرب اية قدرة على الامساك بزمام المبادرة التاريخية وهو ما انتج الكثير من التشتت والنزاعات البينية العربية بدءا من الحدود الجغرافية والسياسية المسطرة تسطيرا مدرسيا وليس إنتهاءا بالقضايا التي نراها اليوم اكثر استفحالا في إستخفاف العلاقات العربية – العربية والتمسك الشديد والفردي أحيانا بأوزان ومواقع تدعي دولها مكانة مميزة في الحياة العربية بعلاقات أكثر تميزا مع هذا الغرب الاستعماري الذي يجد اليوم منظروه فرصتهم التاريخية للمزيد من الجمود والانقطاع العربي وبث روح الاستكانة والانهزامية عند الجمهور العربي .
ما يعيشه العرب في حياتنا الراهنة يحمل الكثير من الدلائل والاسماء الكبيرة والكثيرة، وإن تغيرت النظريات والاسماء التي تلتقي في الجانبين العربي والغربي ليقع العرب في ذات المطبات التاريخية التي تشغلهم عن قضاياهم المصيرية القومية بل وحتى الوطنية التي كانت تتاجر باسم القضية المركزية ممثلة بالقضية الفلسطينية وهي أبعد عنها وباعترافات غربية وعربية صريحة منذ مقولة الراحل عبد الكريم قاسم المعروفة.. بامكان الانسان العربي أن يستبدل اسم الكاردينال نيومان باسم بوش الذي يقدم نفسه على طريقة القديسين الذين يعملون دونا عن سكان الارض جميعا ل"إنقاذ العرب من شرور أفعالهم وعقولهم"... ولا نحتاج في هذا السياق لنفهم بأن رايس التي تجول منطقتنا بين فترة وأخرى لا تختلف كثيرا عن مارتينو لخلق حالة من الاصطفاف الرسمي و"الثقافي" والحزبي الانهزامي خلف شعارات براقة لم يلمس منها الانسان العربي سوى المزيد من الدعم لمشاريع التفتيت العربي والقذائف الذكية التي تصيب الانسان العربي في كل مكان ...
ربما يعتبر كتاب كثيرون من الذين ينتمون إلى المدرسة الليبرالية التنظيرية العربية بأنه للغرب وظيفة نظيفة في الظاهر ، لا لسبب إلا لأن الخطاب الفاشي الاستعماري يُقدم مغلفا بكثير من القشور البراقة عن الحرية وأحيانا التحرير ( في المثل العراقي) والتوجه المباشر والسخيف لبوش من على منصة الاممالمتحدة لمخاطبة الشعوب في أكثر من بلد عربي وتقديمه شهادات حسن سير وسلوك بينما لم يقل كلمة واحدة عما يعانيه في عقر داره من قضية واحدة نسوقها على سبيل المثال لا الحصر كتفشي ظاهرة التمرد على الحكومة الفيدرالية وإنتشار الميليشيا المسلحة في أكثر من ولاية أمريكية ، هذا عدا حالة الافقار التي إزدادت بالتراكم في ما يسمى اقوى الاقتصاديات العالمية... هؤلاء الليبراليون الجدد الذين يبشرون من بين ظهرانينا بالعصر الفوق إستعماري لا يرون في سياسة وتوجهات الغرب ما يستدعي النقد أو الرفض ، فهم على طريقة بوش يرددون الشعار الانجيلي "من ليس معنا فهو ضدنا".... يستخدمون ما يدغدغ مشاعر الجماهير العربية عن الحرية ... بينما هم يخرسون تماما عن إنتهاك أبسط قواعد الحرية البشرية في فلسطين ولبنان والعراق بشكل مخزي لكل القيم التي يتبجح بها هذا الغرب ومحاولات القفز عن سيادة الدول من دارفور حتى سوريا ولبنان ومرورا بالقادم في السعودية ومصر من منظور قراءة هذا الغرب اليميني الازدواجي الاستعلائي عن حرية الاقليات والاديان ، بينما ندرك بأن سياسة الاشتباه بالعرب وملاحقتهم وانتهاك حرياتهم المدنية والدينية باتت سمة منتشرة في أغلب الدول الغربية ( ولا يحتاج الامر إلا لمراجعة بعض التقارير الصادرة عن منظمة كير ليكتشف حجم الزيف على طريقة الاستخبارات العربية في إتهام وإعتقال أي إنسان بملامح شرق أوسطية وصنع هالة خدهوليوودية عما كان يخطط له المعتقل)...
أما عن حرية الاديان ، بل دعونا نسمي الامر إحترام معتقدات البشر، فقد يجهل الكثيرون من هؤلاء الليبراليون المنقادون وراء زملاء لهم يسمون أنفسهم أكاديميون غربيون بأنه في كثير من البلدان "المتحضرة" يمكنك أن تبني معبدا بوذيا بينما لا يسمح لأتباع الديانة الاسلامية بإقامة مساجد لهم ولو على نفقتهم الخاصة وبأنه في بلد مثل الدانمارك لا يجد المسلمون بدا من ممارسة شعائرهم المراقبة مراقبة لصيقة وعبر أجهزة تجسس متطورة في مباني لا تصلح أن تسمى مساجد ، وممنوع بالاصل قانونا أن تسمي تلك الاماكن مساجدا بينما يخوض هؤلاء حربا حقيقة مع المشرعين لبناء مسجد أو الاعتراف بدينهم ... في المقابل تستمر حملة التشهير والاستهزاء بهؤلاء دون وازع قانوني،إضافة غلى قضية الرسوم الكاريكاتورية، من خلال حفلات استهزاء يقيمها شبيبة حزب يميني متطرف يحصل في كل إنتخابات على المزيد من الاصوات...
نحن لا ننفي بأنه في الجانب الاخر هناك ممارسات لا يمكن القبول بها من قبل بعض أبناء الاقليات، لكن الصورة الاشمل التي يتعامل من خلالها منظرو الفكر التقسيمي الغربي تحاول بكل قوتها شيطنة ديانة كاملة للولوج إلى ما ذهبنا إليه في بداية مادتنا هذه لخلق حالة من الانقسام والخوف الفردي والجماعي والهروب العربي الجماعي من الاجابة على تحديات بمستويات زرع حالة من تسهيل تنفيذ الاتي من المشاريع التي يعمل على وضعها متخصصون غربيون بينما يتكرر أمام ناظر العرب جميعا ذلك المشروع التقيسمي الجهنمي وإغماض العين عن المنشور والتصريح تحت بند زلات لسان غربية تجد بين صفوف العرب من يقبل بها ويصدق بأنها زلات لسان... والاستمرار بالهراء المسى "حوار حضارات" بينما تراق دماء العرب وأطفالهم على خارطة شرق أوسط اليمين الفاشي الامريكي وأذرعه الغربية والمحلية العربية... وحتى لا يفهم من تعبير الهراء بأنها دعوة للانطواء على الذات، فإن كل ما ما نطلبه هو إدراك عربي بأنه لا يمكن إجراء حوارات ونحن غارقون في تناحر داخلي يعمقه الغرب ولا يمكن التصدي للتحديات دون إستخدام مكامن القوة المتمثلة في إنتصار حرية وإرادة الشعوب العربية على قراءتها الدونية لذاتها والتي تم ويتم زراعتها في النفوس على مدى تاريخ طويل من إختلال التوازن بين الحاكم والمحكوم... هؤلاء الذين يطيرون بين عاصمة وأخرى ليديروا ما يسمى حوار حضارات مع الغرب عليهم أن يدركوا بأنه دون وجود قاعدة قوية من وعي وحرية للجماهير التي يدعون تمثيلها فإننا سنبقى ندور في حلقة لوك الكلام دون أن يفهم الطرف المقابل بأن فلسطين ولبنان والعراق والتدخلات السافرة هنا وهناك وتنصيب أطراف غربية نفسها تنصيبا أبويا رعويا لتقديم الحلول بالطريقة المتناسبة ومصالح الرأسمالية والدفاع الاعمى عن اللاعدالة المنفذة في فلسطين والتحمس لتشجيع حرب أهلية في كل دولة عربية أمور لا يمكن لنيرانها أن تبقى محصورة في الرقعة الجغرافية التي يختارها بوش ورايس وهؤلاء الاكاديميون الذين تساهم تقاريرهم في صنع سياسيات خاطئة، فقد تصبح التربة أخصب لمزيد من الصدام بدل الحوار ما لم يكف الغرب عن قراءته الاستعلائية تلك لقيم ومكانة الانسان العربي والتسخيف من عقله بهذه الصورة المتكررة!