قبل ساعات قليلة من صدور حكم محكمة القضاء الإدارى بوقف إجراء الانتخابات البرلمانية التى دعا إليها الرئيس مرسى.. كنت مشغولا بالتفكير فيما سأكتبه هذا الأسبوع.. كان تقديرى أن الأزمة فى مصر وصلت إلى طريق مسدود واستقرت عند مرحلة شديدة الخطورة.. وأنها - الأزمة - باتت تهدد بالفعل بانهيار الدولة.. وكان من الطبيعى أن يتجه تفكيرى إلى الكتابة عن كيفية الخروج من نفق هذه الأزمة.. لكننى رأيت ذلك مستحيلا!.. ليس الكتابة بالطبع وإنما الخروج من نفق الأزمة!. وفجأة صدر حكم المحكمة فإذا بتفكيرى يتغير وينقلب بعد أن رأيت المستحيل أصبح ممكنا!. والمستحيل من وجهة نظرى أن طرفى الأزمة الرئيسيين.. النظام والمعارضة.. يتمسكان كل منهما بموقفه لا يريد أن يتزحزح عنه قيد أنملة.. كأنهما اتفقا على ألا يثق أحدهما فى الآخر.. وعلى ألا يتنازل أحدهما للآخر!. المعارضة تتمسك بوقف الانتخابات البرلمانية لحين الحصول على ضمانات كافية لنزاهة الانتخابات.. وتطالب بشدة بتغيير حكومة الدكتور قنديل واستبدالها بحكومة محايدة تتولى الإشراف على الانتخابات. فى المقابل كان النظام يتمسك بإجراء الانتخابات البرلمانية فى موعدها الذى حدده رئيس الجمهورية.. وكان أيضاً يرفض تغيير الحكومة بحجة أن الوقت لا يسمح بهذا التغيير. وكان من الطبيعى والمنطقى فى ظل أجواء انعدام الثقة بين الطرفين وتمسك كل منهما بموقفه ورفض تقديم أى نوع من أنواع التنازل للطرف الآخر.. كان من الطبيعى والمنطقى أن تتزايد حدة الأزمة ويزيد الاحتقان.. وتصل الأمور إلى طريق مسدود. موقف الطرفين عبّرت عنه إحدى الصحف الأمريكية بقولها إن الاثنين خانا الثورة.. فى إشارة إلى أن كل طرف تمسك بمصلحته الخاصة على حساب مصلحة مصر. ويزيد الطين بلة ليس فقط وجود خلافات حادة بين النظام والمعارضة وإنما اتساع نطاق هذه الخلافات والانقسامات لتشمل معظم القوى السياسية الموجودة على الساحة.. إن لم يكن كلها. وتصل الأمور إلى نقطة أقرب ما تكون إلى حافة الهاوية!. *** على المستوى الاقتصادى أصبح معروفا للجميع أن الأزمة الاقتصادية توشك أن تعصف بمصر.. الدولار يواصل ارتفاعه والأسعار تقفز كل صباح وبعض السلع الاستراتيجية الحيوية كالأدوية بدأت تختفى من الأسواق.. كل ذلك وأملنا فى الحصول على قرض البنك الدولى يتراجع يوما بعد يوم. فى نفس الوقت أصبح واضحا أننا نواجه أزمة حادة فى الوقود وخاصة السولار الذى أصبح من أجله يراق الدم!.. فالمشاحنات والمشاجرات عند محطات الوقود وقلة المعروض واختفاء كميات كبيرة منه.. كل ذلك أدى إلى معارك طاحنة بين المواطنين.. سالت فيها الدماء!. أضف إلى ذلك مظاهرات الغضب التى اندلعت فى محافظات كثيرة لأسباب مختلفة.. فى بورسعيد وفى المنصورة وفى القاهرة والجيزة.. اندلعت مظاهرات الغضب لأسباب سياسية وتحولت هذه المظاهرات إلى معارك طاحنة بين الشرطة والمتظاهرين.. وفى محافظات أخرى اندلعت المظاهرات وتم قطع الطرق وتعطيل خطوط السكك الحديدية احتجاجا على الانفلات الأمنى الذى وصل إلى درجة خطيرة وغير مسبوقة. ثم ما حدث من الشرطة وما يحدث داخل الشرطة!. *** فجأة اشتعلت الحرب مرة أخرى بين المتظاهرين وبين أجهزة الشرطة. من ناحيتها بدأت أجهزة الشرطة وخاصة التى تتعامل مع المظاهرات فى استخدام العنف المفرط ضد المظاهرين.. والنتيجة أرقام فلكية للمصابين والقتلى. فى نفس الوقت تحولت المظاهرات السلمية إلى مظاهرات عدائية تحاول استهداف رجال ومعدات الشرطة. ثم حدث تطور خطير ندركه من خلال الأخبار التى بدأت تتوالى عن غضب أفراد وضباط الشرطة أنفسهم!. خبر يقول إن هناك 6 قطاعات فى القاهرةوالمنصورة والإسماعيلية وشرق الدلتا دخلت فى إضراب عن العمل احتجاجا على استشهاد زملائهم وسياسة وزارة الداخلية والحكم على الشناوى "قناص العيون". وخبر آخر يقول إن المئات من أفراد الترحيلات من قوات الأمن المركزى ونظم العساكر دخلوا فى إضراب مفتوح عن العمل بقسمى أول وثان طنطا احتجاجا على قرار النيابة العامة بحبس أحد زملائهم. ثم خبر عن اتساع دائرة العصيان والإضراب عن العمل فى العديد من قطاعات الأمن المركزى على مستوى الجمهورية احتجاجا على سياسة الداخلية وذلك بعد استشهاد أحد الضباط بقسم مصر القديمة. ونسمع عن محاولة عدد من أمناء وأفراد الأمن المركزى بمنطقة المجزر إشعال النيران بسجن المنصورة العسكرى احتجاجا على قرار حبس قائد السيارة المدرعة التى دهست أحد المتظاهرين. ويعلن أكثر من 30 ألف ضابط وجندى العصيان ورفض تنفيذ أوامر قيادات وزارة الداخلية.. كما يرفض أكثر من 160 جنديا وضابطا المشاركة فى تأمين مواقع مديرية أمن بورسعيد. ويقوم العشرات من ضباط وأمناء وأفراد الشرطة بإغلاق قسم قصر النيل للمطالبة بإقالة وزير الداخلية!. احتجاجات الوقود وانهيار الاقتصاد ومظاهرات الغضب وما حدث ويحدث من الشرطة.. هل كنت أبالغ عندما ذكرت أننا اقتربنا جداً من حافة الهاوية؟!.. وهل يمكن فى مثل هذه الأجواء.. وفى إطار معادلة العناد والتعنت التى تحكم العلاقة بين النظام والمعارضة أن نجد طريقة للخروج من نفق الأزمة؟.. مستحيل!. لكن الغريب أن المستحيل أصبح ممكنا بعد حكم محكمة القضاء الإدارى!. *** يبدو غريبا أن حكم المحكمة بإيقاف الانتخابات تسبب فى نوع من الهدوء ألقى بظلاله على المشهد المحتقن!. المظاهرات والصدامات والمشاحنات خفت حدتها.. والقوى السياسية المختلفة هدأت تصريحاتها.. القوى المعارضة أبدت ارتياحها للحكم.. والنظام لم يعارض الحكم بل أبدى ارتياحه لصدوره.. أما القوى الإسلامية المختلفة فقد أعلنت هى الأخرى ارتياحها وتأييدها للحكم. هل يمكن بعد ذلك أن تمتد جسور الثقة بين النظام والمعارضة؟!.. هل نستطيع أن نصل إلى توافق عام؟!.. ممكن وليس مستحيلا. ممكن إذا عملت المعارضة على تهدئة الشارع والتنازل عن فكرة الانتخابات الرئاسية المبكرة. ممكن إذا استجاب النظام لمطالب المعارضة وبعض الأحزاب الإسلامية بتغيير الحكومة.. خاصة أن الوقت أصبح يسمح. ممكن جداً الخروج من النفق المظلم!! *** مصر لم تعد قادرة على تحمل نزيف الدماء والاحتقان والغضب والانفلات الأمنى. مصر تحتاج إلينا جميعا.. فهل نسينا أننا مصريون؟!.