قرأت كثيرًا فى كتب السيرة ودواوين الشعر، ولكن كنت دائمًا أتوقف عند الفارس والشاعر العربى المبدع امرؤ القيس.. فأحداث حياته..دراما إنسانية.. موحية ومؤثرة، حيث قست عليه الأيام وعاندته الظروف..فتقلب بين النصر والهزيمة، والسعادة والشقاء.. والغنى والفقر.. ومات وحيدًا ودفن بعيدًا.. عن أهله ودياره. هو أمرؤ القيس ابن حجر ابن الحارث.. لقب بالملك الضليل.. لكثرة ترحاله وتنقله بين القبائل العربية مع نفر قليل من أهله وأعوانه.. وسمى أيضًا «بذا القروح» بسبب إصابته بمرض الجدرى،والذى كان سببًا فى وفاته. كان والده حجر بن الحارث ملكًا على بنى أسد.. إحدى القبائل العربية الشهيرة فى الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام، وكان شاعرنا أصغر أولاده. فشب على ما كان ينشأ عليه أولاد الملوك العرب فى ذلك الزمان،حيث تعلم الفروسية والشعر، لكنه كان محبًا للهو واللعب.. مولعًا بمغازلة النساء.. ومن كثرة مغازلته لفتيات القبيلة.. غضب عليه والده، ونهاه عن ذلك فلم يرتدع، فاضطر لطرده، فجمع امرؤ القيس حوله مجموعة من الفتيان والصعاليك.. وهام بهم.. متنقلًا بين منازل العرب.. يلاعبهم وينازلهم.. وينشدهم الشعر. وبينما هو فى هذه «الحالة» غير عابئ إلا بما هو فيه، من المرح والمتعة، جاءه نعى أبيه.. وأن بنى أسد قتلته، فرفع رأسه إلى الرسول- وكان يلعب النرد مع صديق له- قائلًا: ضعينى صغيرًا، وحملّينى كبيرًا، لا صحو اليوم ولا سكر غدًا، اليوم خمر وغدًا أمر.. وآلى على نفسه، ألا يأكل لحمًا ولا يشرب خمرًا.. ولا يقرب الماء من رأسه.. حتى يأخذ بثأر أبيه ممن قتلوه. وظل يطارد قتلة أبيه.. مرة يخطئهم، وأخرى يصيبهم، مستعينًا فى ذلك بأعمامه وكانوا ملوكًا على عدة قبائل عربية مختلفة.. حتى ظفر بهم. .. وفى هذا قال: أحمى دروعهم فسربلهم بها والنار كحلهم بها تكحيلا حلت له من بعد تحريم لها أو أن يمس الرأس منه غسولا حتى أباح ديارهم فأبادهم فعموا فهم لا يهتدون سبيلا أى أنه بعد أن ظفر بهم.. أحمى الدروع وألبسهم بها، وكحل أعينهم بالنار، وأباد ديارهم.. ومن نجا منهم.. هام على وجه بين القبائل لا يعرف لنفسه سبيلًا! وأصبح من حقه أن يشرب الخمر ويغتسل بالماء، بعد أن كان قد حرمهما على نفسه.. حتى يأخذ بثأر أبيه. تلك كانت نبذة سريعة عن حياة امرؤ القيس الفارس، الذى تحمل عبء أخذ ثأر أبيه دون أشقائه الآخرين.. وكانوا كثر ولكنهم تخاذلوا عن مساندته. أما امرؤ القيس الشاعر.. فالحديث يطول حوله.. فقد كان مبتكرًا ومجددًا.. ويكفيه أن وصفه رسول الله (صلي الله عليه وسلم) بحامل لواء الشعراء. واقرأ معى ما قاله فى فترة الصبا واللهو.. فى قصيدة «تعلق قلبى» من رقة الغزل وجمال الوصف: تعلق قلبى بطفلة عربية تنعم فى الديباج والحلى والحلل لها مقلة لو أنها نظرت بها إلى راهب قد صام لله وابتهل لأصبح مفتونًا.. معنى بحبها كأن لم يصم لله يوم ولم يصل فتلك التى هام الفؤاد بحبها مهفهفة بيضاء درية القبل أو عندما شبه نفسه بالفأر الذى حاولت القطة صيده، ولكنه أفلت منها، ومع ذلك فهو حزين.. لأنه لم يأخذ بثأره.. حيث رمته بسهم عينيها.. فأصابت فؤاده! وهر تصيب قلوب الرجال وأفلت منها أبن عمر حجر رمتنى بسهم أصاب الفؤاد غداة الرحيل.. فلم أنتصر واقرأ له فى معقلته الشهيرة والتى تبدأ ب «قف نبكى» من ذكرى حبيب منزل.. معتزًا بكرامته.. قويًا صلبًا.. على الرغم من أن دموع حبيبته كانت كالسهم الذى ضرب أجزاء قلبه المفعم بحبها! أغرك منى أن حبك قاتلى وأنك مهما تأمرى القلب يفعل وأنك قسمت الفؤاد فنصفه قتيل ونصف فى حديد مكبل فما ذرفت عيناك إلا لتضربى بسهمك فى أعشار قلب مقتل وعندما ضاقت به الأرض رغم براحها وتكالبت عليه الهموم، وصف ظلمة الليل الذى تمدد بجسده والتحق أوله بآخره، بأمواج البحر المتلاطمة حاملة معها كافة أنواع الهموم.. وكأنها تختبر صلابته وقوة تحمله، ومع أن الصبح ليس أفضل من الليل الطويل فهو يناشده أن يرحل ويكفيه ما هو فيه! وليل كموج البحر أرخى سدوله على بأنواع الهموم ليبتلى فقلت له لما تمطى بجوزه وأردف أعجازا وناء بكلكل ألا أيها الليل الطويل ألا أنجلى بصبح وما الأصباح منك بأمثل رحم الله امرؤ القيس.. مات وحيدًا ودفن غريبًا.. بعد أن عاش شريدًا معذبًا بثأر أبيه.. ولم يكن يأمل من صروف الدهر خيرًا.. وهو يعلم أن الزمن يذيب الصخور الصماء! وقد طوقت فى الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب أبعد الحارث الملك ابن عمرو وبعد الخبر حجر ذو القباب أرجى من صروف الدهر لينا ولم تغفل عن الصم الهضاب!