من مكتبة الإسكندرية إلى مكتبة تمبكتو، من العراق إلى سوريا إلى البوسنة والهرسك.. يعيد التاريخ نفسه، وربما لن تكفى عبارات الشجب والاستنكار فى استرجاع ما تم فقده فى لحظات من تراث حافظت عليه أجيال لقرون، بعد أن أُضرمت النار فى معهد «أحمد بابا للتوثيق والأبحاث»?، فى مدينة تمبكتو بشمال مالى خلال الصراع الدائر بين القوات الفرنسية والحكومة المالية من جهة، والحركات الجهادية من جهة أخرى. ولكن السؤال من المستفيد من هدم تراث يحوى أكثر من 20 ألف مخطوطة تمثل تراثًا لا يقدر بثمن؟ حيث يعتبر المعهد الذى تعرض للحرق واحدًا من 60 إلى 80 مكتبة خاصة فى تمبكتو عاصمة الثقافة فى غرب أفريقيا ليحتوى على وثائق أثرية وأرشيفًا من النصوص المكتوبة بخط اليد سواء باللغة العربية أو بلغات أفريقية مكتوبة بحروف عربية يرجع تاريخها إلى القرن الثالث عشر. حيث يحتوى مركز «أحمد بابا للتوثيق والأبحاث» على أكثر من 20 ألف مخطوطة بعضها كان محفوظًا فى سراديب تحت الارض حيث كان يعمل المعهد على تصنيف المخطوطات التى يتم العثور عليها وحمايتها وترميمها، إضافة إلى تصويرها من أجل تشكيل مكتبة الكترونية أكثر قدرة على البقاء والصمود، حيث قام المركز حتى الآن بمعالجة أكثر من 300 ألف مخطوطة موجودة فى تمبكتو وضواحيها لدى العائلات الكبيرة التى تعتبر هذه المخطوطات تراثًا خاصًا لها وتركة من الأجداد، وتشمل هذه المخطوطات كتبًا فى التاريخ على غرار «اليهود فى تمبكتو» و«تاريخ السودان» إضافة لمؤلفات فى الفلسفة واللاهوت واللغة والرياضيات والفقه وأصول الحكم، كما توجد ضمن هذه المخطوطات مراسلات بين الملوك فى منطقة الصحراء الكبرى التى تمت زخرفتها بماء الذهب الذى كان ينتشر بكثرة فى المنطقة، إضافة إلى مخطوطات ثمينة تم نقلها من بلاد الأندلس عندما خرجت من سلطة المسلمين فى القرن الخامس عشر إبان ازدهار تمبكتو اعترافًا بأهميتها كموقع للعمارة الأفريقية وماضيها العلمى والمعرفى أعلنت منظمة اليونسكو عام 1990 مدينة تمبكتو موقعًا من مواقع التراث العالمى. وبمبادرة من اليونيسكو أعلنت السلطات المالية سنة 1970 تأسيس مركز أحمد بابا للتوثيق والأبحاث الذى تم تدشينه فى يناير 2009 بتكلفة وصلت إلى 2.5 مليار فرنك غرب أفريقى، حيث يمتد مركز أحمد بابا للتوثيق والأبحاث على مساحة تصل إلى 4800 متر مربع حيث يضم قاعة محاضرات تتسع ل 500 طالب، وقاعة مؤتمرات تتسع لنحو 300 شخص، إضافة إلى مكتبة ضخمة تحتوى على آلاف المخطوطات الثمينة فى مختلف المجالات، وعليه فقد وصفت المخطوطات الموجودة بها بأنها ليست فقط تستحق الدراسة بل تعتبر نقطة انطلاق للتفكير فى التقاليد الأفريقية المكتوبة، ورغم أهمية هذه المخطوطات التى تعد كنوزًا إلا أنها أيضًا مجهولة وغير مطروقة. ورغم ذلك أيضًا فقد شكلت عامل جذب لعدد من الرحالة والمكتشفين الغربيين وبينما كانت مخطوطات تمبكتو مهددة بالضياع نتيجة للظروف الصعبة التى تحفظ فيها والطبيعة الصحراوية للمنطقة كانت النيران دائما حاضرة لتأخذ نصيبها من هذه المخطوطات والتى سبق أن تعرضت لحرائق عدة قد لا يكون هذا الحريق الضخم الذى أتى على جميع أنحاء المركز وراح معه تاريخ اسلامى وعربى كبير آخر خاصة فى ظل توتر الوضع بمنطقة الساحل عموماً وشمال مالى خصوصاً، وتعتقد اليونيسكو أن معظم المخطوطات لا تزال سليمة رغم فقدان نحو ألفى مخطوطة. وقد توالت الإدانات المنددة بحرق المعهد، حيث ادان شيخ الأزهر فضيلة الدكتور أحمد الطيب حرق معهد أحمد بابا للتوثيق والأبحاث. الذى يحوى آلاف المخطوطات ويمثل تراثاً للأمة الإسلامية والإنسانية وأن الأزهر الشريف من منطلق رسالته يعمل على حفظ التراث ويهتم بذلك ولا قبل بأى حال من الأحوال الاعتداء على هذا التراث الإسلامى والإنسانى أو إتلافه. كما أدان الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامى أكمل الدين إحسان اوغلو بشدة حرق مكتبة المخطوطات. كما نددت المنظمة الإسلامى للتربية والعلوم والثقافة «اليونيسكو» إحراق المركز ووصفت الحريق بالعمل الإجرامى حيث أتلف ثروة علمية وحضارية ثمينة وقالت يجب أن يدان ويعاقب من ارتكبه بأشد العقوبات. وفى البداية تم توجيه أصابع الاتهام إلى الجهاديين الإسلاميين الذين انسحبوا من المدينة التاريخية هرباً من زحف القوات الفرنسية المدعومة من الجيش المالى حيث اتهمت الحكومة المالية والقوات الفرنسية المتطرفين بإحراق المكتبة بعد أن شعروا بخسارتهم للمدينة. خاصة أن هذه الخطوة ليست جديدة عليهم فقد أحرقوا سابقًا مخطوطات ودمروا أضرحة أولياء فى المدينة على اعتبار أنها منافية للشريعة الإسلامية. وقال المتحدث باسم الجيش الفرنسى إن القوات الهجومية حرصت على تجنب القتال داخل البلدة حتى لا تلحق أضرارًا بالكنوز الثقافية والمساجد والأماكن الدينية التى تقام فيها الدروس الدينية. إلا أن قادمين من مدينة تمبكتو وعارفين بالوضع هناك حسب رواية الجزيرة نت شككوا فى صحة الأنباء التى اتهمت مقاتلى حركة الجهاديين بإحراق المكتبة، مشيرين إلى أن اتهام المقاتلين الإسلاميين به عملية مفبركة من طرف الحكومة المالية لأن اللإسلاميين لا يمكن أن يحرقوا المركز لأن به مصاحف وكتبا فى الشريعة الإسلامية ولو كانوا يريدون حرقه لفعلوا ذلك عندما هدموا الأضرحة وفتحوا باب القيامة خلال الأشهر التى سيطروا فيها على المدينة. معللين بأنه ليس من مصلحة جماعة أنصار الدين التى كانت تسيطر على المدينة مهما بلغ تطرفها أن تحرق مخطوطات تشهد بإسلامية مالى التى تنادى بها تلك الجماعة. فى الوقت الذى ذكرت فيه مصادر أن الطيران الفرنسى قصف مركز أحمد بابا التمبكتى بحجة أن الجماعات الإرهابية كانت تتمركز فيه، وتحدثت وكالات أنباء أخرى عن توريط الجيش المالى فى هذه الجريمة، ربما ليس الفارق من الفاعل. هل الطيران الفرنسى هو المتسبب فى إشعال ألسنة اللهب فى المكتبة أو أن تكون الحركات الجهادية هى من أشعلت النار قبل تركها المكان؟ إنما الفارق هو أن هذه المخطوطات النادرة التى عاشت لأكثر من ثمانية قرون، ذهب الآلاف منها إلى غير رجع، وقد ابدت المكتبة الوطنية فى فرنسا استعدادها لقيادة جهد دولى لإنقاذ المخطوطات الإسلامية التى يخشى من أن تكون قد تعرضت للتدمير أو الإتلاف وأنها تقف على أهبة الاستعداد أو عندما يسمح الموقف لتقديم المساعدة.