على إمتداد ثلاثة عشر قرنًا من عمر الحضارة الإسلامية لم يعرف الناس حديثًا عن علاقة الإسلام بالدولة والسياسة ،لأن هذه العلاقة كانت قضية محسومة وموضع الإجماع.. فالإسلام عقيدة وشريعة،وسياسة وفقة وقانون، وعلى حين مثلث العقيدة والشريعة الأصول التى اجتمعت عليها الأمة، كانت السياسات والفقهيات الفروع التى تتعدد فيها الإجتهادات والتوجهات.. لكن هذا الواقع التاريخىقد تغير بعد الغزو الفكرى الغربى لبلادنا فى العصر الحديث، عندما جاءت العلمانية التى تريد عزل السماء عن الأرض، والفصل بين السياسة و الشريعة الإلهية.. الأمر الذى طرح على بساط البحث هذه القضية التى لم تكن معروفة ولا مطروحة قبل النصف الثانى من القرن التاسع عشر. ولقد كانت المقالات التى كتبها فى صحيفة « المقطم» سنة 1899..أحد المسيحيين الشوام، بأسم مستعار والتى دعا فيها إلى الفصل بين الدولة والدين.. والتى رد عليها الشيخ محمد رشيد رضا [ 1282 1354ه 1865 1935] أول معركة فكرية عرفتها أمتنا حول هذا الموضوع.. ثم تجدد الجدل وتصاعد حول علاقة الإسلام بالسياسة وحول نظام الخلافة الإسلامية، ومشروعيته الإسلامية فى سنة1925م عندما صدر كتاب (الإسلام وأصول الحكم) للشيخ على عبدالرازق (1305 1386ه 1887 1966م) الذى ادعى علمنة الإسلام، ونفى علاقته بالسياسة والحكومة من الأساس.. ويومئذ ثارت أكبر المعارك الفكرية التى عرفتها بلادنا فى القرن العشرين حول هذا الموضوع.. واليوم وبعد ثورة يناير 2011 يثور الجدل من جديد حول طبيعة الدولة الحديثة التى يجمع الكافة على مدنيتها .. لكنهم يختلفون حول معنى « المدنية»؟ هل هى « العلمانية» التى تستبعد الإسلام من السياسية والدولة؟ مخافة تكرار الدولة الدينية التى عرفتها أوروبا عندما حكمتها الكنيسة فى العصور الوسطى؟ أم أن مدنية الدولة لا تنفى مرجعيتها الإسلامية، لأان الدولة والخلافة فى تاريخنا كانت مدنية وإسلامية فى ذات الوقت.. أى أن الدولة الإسلامية كانت ولا تزال وستظل نمطا متميزًا عن دولة الكهانة الكنيسة وعن نقيضتها العلمانية كليهما؟؟ ولقد يكون مفيدًا بل مدهشًا أن نقدم للذين يتحاورون اليوم حول هذا الموضوع، رأى الدكتور طه حسين (1306 1393 ه 1889 1973م) الذى كتب عن نظام الحكم الإسلامى فقال: « قد يظن بعض الذين تخدعهم ظواهر الأمور أن نظام الحكم الإسلامى كان نظامًا ثيوقراطيًا، يستمد سلطانه من الله، ومن الله وحده، ولا شأن للناس فى هذا السلطان. ولا شك أن هذا الرأى هو أبعد الآراء عن الصواب، ذلك أن الإسلام لم يسلب الناس حريتهم، وإنما ترك لهم حرية فى الحدود التى رسمها لهم..ولقد قام أمر الخلافة الإسلامية كله على رضا الرعية، فاصبحت الخلافة عقدًا بين الحكام والمحكومين، يعطى الخلفاء على أنفسهم العهد أن يسوسوا المسلمين بالحق والعدل وأن يسيروا فيهم سيرة النبى ماوسعهم ذلك ويعطى المسلمون على أنفسهم العهد وأن يسمعوا ويطيعو وأن ينصحوا ويعينوا،لذلك فإن الرأى القائل إن نظام الخلافة إنما هو النظام الثيوقراطى الإلهى هو بعد الآراء عن الصواب. لم يكن نظام الحكم الإسلامى نظام حكم مطلق، ولا ديمقراطيًا يونانيًا، ولا قيصريًا رومانيًا، إنما نظامًا عربيا خالصًا، بيّن الإسلام له حدوده العامة من جهة،وحاول المسلمون أن يملؤا مابين هذه الحدود من جهة أخرى، كان نظامًا إنسانيًا، لكنه متأثر بالدين إلى حد بعيد جدًا، ولم يكن الخليفة يصدر عن السلطة الدينية، لكنه كان مقيدًا بما أمر الله. فتميز نظام الخلافة الإسلامية عن كل نظم الحكم التى عرفتها الحضارات.. فهل نتأمل اليوم هذا الذى كتبه طه حسين منذ أكثر من ثمانين عامًا؟!