البكاء على الأطلال.. والهجر والبعاد، ثم العتاب ومناجاة الحبيب.. كانت ومازالت من أجمل الصور الشعرية.. فى الشعر العربى.. القديم والحديث. وقد أبدع الكثير من الشعراء العرب فى هذا المجال، منهم أمرؤ القيس، وأبو فراس الحمدانى، وعنترة ابن شداد، وقيس وليلى وكثير عزة، وجميل بثينة.. وغيرهم. ولكننى توقفت أمام القصيدة المشهورة للشاعر الحصرى القيروانى.. يا ليل: الصب متى غده؟.. والتى وصفت بأنها من عيون الشعر العربى، حتى أن الكثير من الشعراء القدامى والمحدثين «عارضوها» أى حاولوا تقليد كلماتها.. ومعانيها.. ولكن بذات البناء وبذات القافية، وكان من أشهر من فعلوا ذلك.. أمير الشعراء أحمد شوقى فى قصيدته الشهيرة «مضناك جفاه مرقده»! وتعالوا معى نتابع تلك «المباراة» الممتعة بين الشاعرين الكبيرين، اللذين تبارا- بدون اتفاق- فى حسن التصوير وجمال المعانى.. وعذوبة الكلمات ورقتها. تبدأ قصيدة الحصرى فى سؤال الليل عن موعد لقاء الحبيب بحبيبته؟.. لقد أحب فتاة رقيقة الخصر.. رشيقة القوام.. ولكنها كالغزال..لا تستقر فى مكان.. مما صعب عليه تصيدها.. بسبب خوفها من الواشين فى أن يفضحوا أمرها: ياليل: الصب متى غده؟ أقيام الساعة موعده؟ رقد السمار فأرقه أسف للبين يردده كلف بغزال ذى هيف خوف الواشين يشرده هذا بينما يبدأ أحمد شوقى فى طلب الرحمة والعودة بعد البعاد، فقد تورمت جفون الحبيب وعذبه قلبه الحيران.. وجفاه النوم.. حتى أصبحت تنهيدته تذيب الصخر. مضناك جفاه مرقده وبكاء ورحمّ عودّه حيران القلب معذبه مقروح الجفن مسهده يستهوى الورق تأوهه ويذيب الصخر تنهده ثم يستمر الحصرى فى وصف حال المحب.. وعرض شكواه من نكران عيون الحبيب لحاله.. مصورا دمه الأحمر كالورد فىخد الحبيب.. مستشهدا به. يا من جحدت عيناه دمى وعلى خديه تورده خداك قد اعترفا بدمى فعلام جفونك تجحده؟ ولكن شوقى يبدى اندهاشه من محاولات الخد التهرب من الشهادة على حال المحب، بعد أن طلب منه ذلك.. أمام إصرار العين على عدم رؤية دمه المسال.. بسبب هجر الحبيب وتدلله. جحدت عيناك ذكى دمى أكذلك خدك يجحده قد عز شهودى إذ رمتا فأشرت لخدك أشهده ثم يختم كل من الشاعرين قصيدته بما يشبه الحكمة أو القول الفصل فى الموضوع، فالحصرى يأتى باللائمة على الأيام التى تباعد بين المحبين وتحرمهم من عذوبة اللقاء، بينما يرى شوقى أن المحب يجب أن يغفر لحبيبه.. حتى لو تسبب فى ضياع روحه! فيقول الحصرى: ما أحلى الوصل وأعذبه لولا الأيام.. تنكده ويقول شوقى: مولاى وروحى فى يده قد ضيعها سلمت يده الطريف أن كلا من القصيدتين.. شدى بهما نجمان من نجوم الطرب العربى، هما فيروز التى شدت بقصيدة الحصرى، وعبدالوهاب الذى شدا بقصيدة شوقى.. وتلك كانت «مباراة» أخرى؟.. أترك الحكم فيها للقراء!