القصيدة العربية.. مَن يستطيع أن يحفظها خالدة سوى أصوات شجيّة تجعلها تعلق بأذهان مستمعيها؟ بدأنا في الحلقة الماضية الحديث عن هذه القضية، وكانت البداية مع أم كلثوم والتي واجهت بعض النقد بأنه مهما بلغت قيمة الفنان؛ فالقصيدة أشهر منه.. سألت هذا المعترض سؤالاً: ما رأيك في قصيدة "هذه ليلتي"؟!! أجابني بأنها رائعة ويحفظها كلمة كلمة بصوت كوكب الشرق. سألته عن قائلها؟!! فأجاب بالصمت. أخبرته بأنها للشاعر اللبناني الكبير جورج جرداق، الذي برغم موهبته الفريدة؛ فإن شهرة الأغنية قد غطّت على بقية قصائده. وعندما أردت أن أكمل بحثي عن هذا الأمر، وجدت كل الشواهد تدفعني لأن أتحدَّث عن مطرب واحد هو محمد عبد الوهاب، موسيقار الأجيال، مطرب الملوك، فنان الشعب؛ كلها ألقاب لصاحب صوت عذب طالما أثرى القصيدة العربية الفصحى وطوّعها في سهولة ولين. نشأة عبد الوهاب لعِبَت دوراً مُهماً في مكانته التي وصل إليها؛ حيث سمعه أمير الشعراء أحمد شوقي في أحد الحفلات؛ فأعجبه أداؤه فأحاطه برعايته الكاملة. علّمه كيف ينتقي ما يغنّي، كيف يتحدث، كيف يتصرف.. كان شوقي يعتبر عبد الوهاب ابناً له؛ حتى إنه لما جاء عبد الوهاب ذات مرة والضيق بادٍ على وجهه، وشكى للأمير هجوم الصحف عليه في بدايته، طلب منه شوقي أن يأتي بتلك الصحف ويقف عليها؛ ففعل؛ فارتقى. قال له أمير الشعراء: هكذا علَت مكانتك بهجوم الكارهين لك. ويتحدث عبد الوهاب بمذكراته قائلاً: إنه كان يمرّ مع أحمد شوقي على طه حسين في الجريدة التي كان يرأس تحريرها، ويستمع إلى عميد الأدب العربي، وهو يُملي افتتاحية ذلك اليوم، بصوت مهيب وإلقاء فخم منغّم، وبلا أي تردد أو تلعثم. نعم كان لهذه الصُّحبة مفعول السحر لدى عبد الوهاب في أغانيه وقصائده؛ حتى بعد رحيل أحمد شوقي، استمرّ في مصادقته لكِبار الكتّاب في مصر؛ فكان مطرباً مثقفاً يعي أهمية الدور الذي يقوم بتأديته. ويمكنك أن تُدرك حجم إتقان محمد عبد الوهاب للغة العربية لو سَمِعت فقط غناءه لقصيدة شوقي الغزلية "مُضناك جفاه مرقده"، التي يقول في مطلعها: مُضناك جفاه مَرقدُه ... وبكاه ورحّم عوّده حيران القلب مُعذّبه ... مقروح الجفن مُسهّده
والتي يجد البعض صعوبة في قراءتها؛ يغنيها هو، وبصوت وأداء بهر كل من سمعها؛ فجعلهم يرددونها.. والجدير بالذكر أن المطربة أنغام قد قامت بغناء نفس الأغنية بحفل بالأوبرا. ويمكنك الاستماع لها من هنا إضغط لمشاهدة الفيديو: الغزل كان حاضراً كذلك في غناء عبد الوهاب؛ ولكن هذه المرة من أشعار "بشارة الخوري" اللبناني، المُلقّب بالأخطل الصغير، وكان كذلك في قصيدته "جفنه علم الغزل"، والتي يقول في مطلعها: جَفنه علّم الغَزَل ... ومن العِلم ما قَتَل فحرَقْنا نفوسَنا ... في جحيم من القُبَل ويمكنك الاستماع لها من هنا إضغط لمشاهدة الفيديو: تعاون كذلك مطرب الفصحى مع شاعر مصري كبير اسمه علي محمود طه، تعاوناً جاء في أغنيته "الجندول"، وسُميّت هذه القصيدة بالجندول نِسبة لقارب يُستخدم في التنقّل عبر مدينة البندقية، التي يبدو أن الشاعر زارها وحازت إعجابه؛ فقال في بعض أبياتها: أين مِن عينيّ هاتِيك المجالِ ... يا عروس البحر يا حلم الخيالِ أين عُشّاقك سُمّار الليالي ... أين من واديك يا مَهْد الجمالِ واستخدم عبد الوهاب في هذه القصيدة إيقاع "الفالس" -ربما لأول مرة في الموسيقى العربية- في مقطع يتذكر فيه الشاعر بلده مصر يقول: آه لو كنت معي نختال عبره ... في شراع تسبح الأنجم إثره ويمكنك الاستماع لها من هنا إضغط لمشاهدة الفيديو: كما كان له تعاون آخر مُثمر، ألهب آذان كل من استمع لغناء عبد الوهاب لها، قصيدة "أخي جاوز الظالمون المدى"، لنفس الشاعر المبدع، الذي نالت قصائده شهرة واسعة بعد أن غنّاها مطرب الشعب؛ خاصةً تلك الأبيات الثائرة التي تفيض بالحماسة، والتي يقول بأولها: أخي جاوز الظالمون المدى ... فحَقّ الجهاد وحَقّ الفِدا أنَتْرُكُهم يَغْصِبون العروبة ... مجدَ الأبوّة والسؤددا وليسوا بغير صليل السيوف ... يجيبون صوتاً لنا أو صدى فجرِّد حسامك من غِمده ... فليس له بَعدُ أن يُغمدا ويمكنك الاستماع لها من هنا إضغط لمشاهدة الفيديو: وفي إحدى زيارات الأمير شوقي للبنان، فَتَنَته مدينة "زحلة"؛ فأنشد قصيدة يقول في مطلعها: شَيَّعتُ أَحلامي بِقَلبٍ باكِ... وَلَمَحتُ مِن طُرُقِ المِلاحِ شِباكِ وَرَجَعتُ أَدراجَ الشَبابِ ووَرْدِه ... أَمشي مَكانَهُما عَلى الأَشواكِ وجاء المطرب، صاحب العين الثاقبة الواعية المدركة لما يفعل؛ فانتقى من هذه القصيدة أبياتاً بدأها ب: يا جارَةَ الوادي طَرِبتُ وَعادَني ... ما يُشبِهُ الأَحلامَ مِن ذِكراكِ مَثَّلتُ في الذِكرى هَواكِ وَفي الكَرى ... وَالذِكرَياتُ صَدى السِنينِ الحاكي فصارت من أشهر قصائده المغنّاه على الإطلاق؛ بل واشتُهرت بأن مطلعها "يا جارة الوادي"، ولكن الواقع أن هذا ليس مطلعها الحقيقي الذي بدأه شوقي. وأتت بعد ذلك فيروز والأخوان رحباني؛ فأعادا تقديم نفس القصيدة من نفس بداية عبد الوهاب؛ ولكن بتوزيع مختلف. ويمكنك الاستماع لها من هنا إضغط لمشاهدة الفيديو: وهناك شاعر مصري كبير كذلك لم ينَلْ نصيبه من الشهرة والتوهّج، أبدع عبد الوهاب في غناء إحدى روائعه فساهم في انتشاره. إنه محمود حسن إسماعيل، والقصيدة البديعة هي النهر الخالد التي يقول بها: مسافر زادُه الخيال ... والسحر والعطر والظلال ظمآنُ والكأس في يديه ... والحب والفن والجمال شابَت على أرضه الليالي ... وضيّعت عمرها الجبال ويمكنك الاستماع لها من هنا إضغط لمشاهدة الفيديو: عبد الوهاب له صوت خاص، يؤثر فيمن يسمعه؛ هذا الأمر يبدو جلياً في أغلب قصائد الفصحى التي يُبدعها. لحنه الأخّاذ، طريقة الأداء، صوته النافذ.. كل شيء يجعل الكلمات تدخل وُجدانك فتتأثر بها. وليس أدل على ذلك من القصيدة الحزينة، التي أبدعها شاعر الشباب أحمد رامي، وبها يرثي محبوبته، ويقول بأولها: أيها الراقدون تحت التراب ... جئتُ أبكي على هوى الأحباب كان لي في الحياة من أرتجيه ... ثم ولى والعمر فجر الشباب كان أُنسي وكان توأم نفسي ... فإذا بي في وَحشة واغتراب
قصيدة لو قرأتها تشعر بحزن عميق يتسلل لفؤادك؛ فما بالك لو كانت بصوت عبد الوهاب؟ أظن أن الدموع ستلعب دورها، وأنت تردّد خلفه الأبيات التي أحفظك إياها. ويمكنك الاستماع لها من هنا إضغط لمشاهدة الفيديو: هكذا نختم حديثنا الثاني عن القصائد العربية المغناة، بدأنا بكوكب الشرق أم كلثوم، وأعقَبْنا بموسيقار الأجيال عبد الوهاب؛ مطربون من الزمن الجميل، أثبتوا أن الكلام الذي ينعته البعض بالصعوبة ليس مرفوضاً من قِبَل المستمعين.
حلقات سنستعيد بها ذكراهم العطرة؛ لعلنا نَسعَد بمجرد تذكّرهم في ظلّ فُقدانهم. اقرأ أيضاً: غناء أم كلثوم.. الذي أحيا القصيدة وخلّد الشعراء