سوف يظل الدستور الجديد الذى بدأ العمل به غير معبّر عن إرادة الأمة جميعها، ليس لأنه معبّر عن إرادة فصيل سياسى واحد فحسب، ولكن أيضاً لأن من صوّتوا بالموافقة عليه لا يتجاوزون (20%) من إجمالى الناخبين. ولذا فإنه لتحقيق الحد الأدنى من التوافق الوطنى على هذا الدستور فلا مفر من إجراء تعديلات على المواد المختلف عليها مع انعقاد مجلس النواب، وفى مقدمتها المواد الخاصة بالصحافة والإعلام. إن الملاحظة الأولى على مواد الصحافة هى أنها جاءت متناثرة بين أكثر من فصل من فصول الدستور، بينما كان يتعيّن أن يتضمنها فصل واحد خاص بها حسبما جاء فى دستور 71 السابق والذى أفرد فصلاً مستقلاً تحت عنوان سلطة الصحافة تضمن ست مواد بصياغة دقيقة منضبطة. ومن المفارقات أن ينص دستور 71 فى مادته رقم (207) على أن الصحافة سلطة شعبية مستقلة، مع ملاحظة أن الصحف فى ذلك الوقت كانت جميعها مملوكة للدولة ولم تكن هناك صحف حزبية أو خاصة، بينما أغفل الدستور الجديد.. دستور الثورة النص على سلطة الصحافة رغم تعدد أشكال ملكية الصحف. ومع أن صفة السلطة التى أضفاها دستور 71 على الصحافة لم تكن سوى سلطة بالمعنى الرمزى، إلا أنها كانت تنطوى على دلالة بالغة الأهمية.. تؤكد أهمية رسالتها الإعلامية الوطنية فى التعبير عن الرأى العام وفى أن تكون ضمير الأمة والرقيب الشعبى على الحكومة. ورغم أن المواد الخاصة بالصحافة فى دستور 71 والتى وردت فى الفصل الثانى من باب الأحكام الانتقالية والذى جاء تاليا للفصل الأول بعنوان مجلس الشورى الذى تم استحداثه كغرفة ثانية بالبرلمان، إلا أنه لم يتم النص على ممارسة هذا المجلس لحقوق الملكية نيابة عن الدولة على المؤسسات الصحفية المملوكة للدولة (الصحف القومية)، ولكن تمت إحالة الأمر إلى قانون تنظيم الصحافة الذى صدر لاحقاً، وذلك إعمالاً للعُرف الدستورى الذى يقضى بترك التفاصيل للتشريعات والقوانين التى تترجم النصوص الدستورية، بينما تضمن الدستور الجديد مادة خاصة لهذا الغرض وهى المادة رقم (216) والتى جاءت صياغتها غامضة مبهمة وعلى النحو الذى سيتم إيضاحه لاحقاً. ??? وإذا كانت الجماعة الصحفية ممثلة فى نقابة الصحفيين قد أجمعت على رفض المواد الخاصة بالصحافة التى تضمنها مشروع الدستور، فإن لجنة شئون الصحافة والصحفيين بالمجلس الأعلى للصحافة التى أتشرّف برئاستها بادرت قبل انتهاء الجمعية التأسيسية من الصياغة النهائية ومن خلال هيئة مكتبها بدعوة هيئة مكتب المجلس لعقد اجتماع عاجل للاتفاق على مقترحات التعديلات لتلك المواد، وهو ما تم بالفعل حيث أعدت هيئة مكتب المجلس وكاتب هذه السطور بصفته التعديلات المقترحة والتى لم تأخذ بها الجمعية التأسيسية! وفى اجتماع لجنة الصحافة والصحفيين عقب إقرار الدستور وبعد الإعلان عن الاتجاه لإعداد وثيقة تتضمن التعديلات على المواد المختلف عليها ومن بينها مواد الصحافة لعرضها على مجلس النواب المقرر انتخابه بعد شهرين لإقرارها، فقد تم تشكيل لجنة مصغرة لتلقى مقترحات أعضاء المجلس الأعلى ومجلس نقابة الصحفيين وانتهت اللجنة من صياغة التعديلات، وبقى أن تدعو لجنة الحوار برئاسة المستشار محمود مكى كلا من هيئة مكتب المجلس الأعلى وهيئة مكتب لجنة الصحافة والصحفيين لمناقشة هذه التعديلات وضمها للوثيقة التى ستعرض على مجلس النواب. ??? أولى هذه التعديلات تتعلق بالمادة رقم (48) الواردة فى فصل الحقوق المدنية والسياسية والتى يتعين أن يكون نصها: «الصحافة مستقلة.. تلتزم الدولة بحماية وضمان حريتها واستقلالها من السلطة التنفيذية والأحزاب والجماعات السياسية وكذلك حرية واستقلال سائر وسائل الإعلام.. المسموع والمرئى والرقمى». وأن يكون نص الفقرة الثانية «والرقابة على ما تنشره الصحافة وكافة وسائل الإعلام محظورة ويحوز فرضها استثنائياً فى زمن الحرب وفى حالة التعبئة العامة وعلى الأمور ذات الصلة بالحرب والتعبئة فقط». كما يتحتم إضافة فقرة ثالثة لهذه المادة تنص على «إلغاء العقوبات السالبة للحرية فى قضايا النشر باستثناء ازدراء الأديان السماوية والمساس بالرُسل والأنبياء وانتهاك الأعراض والتحريض على التمييز بكافة أشكاله». وفى نفس الوقت فإنه يتعيّن حذف النص على غلق الصحف أو مصادرتها بحكم قضائى، إذ أن هذه العقوبة لا يقتصر أثرها على الصحيفة وحدها، إنما يمتد ليشمل الضرر العاملين بها من صحفيين وإداريين وعمال. أما المادة الأخرى وهى المادة رقم (49) والتى تنص فى فقرتها الأولى على حرية إصدار الصحف بمجرد الإخطار، فإنه بقدر ما يبدو ذلك النص توسيعا لحرية الصحافة، بقدر ما يفتح الباب أمام صدور صحف مشبوهة.. تمويلاً وتوجهاً، ومن ثم فإنه يتعين حذف عبارة بمجرد الإخطار لوضع ضوابط قانونية للإصدار. ??? وتبقى التعديلات المطلوبة على المادتين الواردتين فى باب الهيئات المستقلة وتحديداً فى الفصل الخامس تحت عنوان «الهيئات المستقلة للصحافة والإعلام». ومن الملاحظ أن المادة رقم (215) حين نصت على أن «يتولى المجلس الوطنى للإعلام تنظيم شئون البث المسموع والمرئى وتنظيم الصحافة المطبوعة والرقمية وغيرها» فإنها دمجت وسائل الإعلام مع الصحافة، وهو دمج لا يستقيم نظراً للاختلاف المهنى الكبير بين كل منهما من حيث طبيعة العمل وآلياته وتقنياته، ولذا فإنه يتعين تعديل المادة للفصل بين الإعلام والصحافة وبحيث يتولى كل منهما مجلس خاص.. مجلس وطنى للإعلام ومجلس وطنى للصحافة سواء بقى المجلس الأعلى الحالى أو تم تغييره. وما ينطبق على تلك المادة ينطبق بالضرورة على المادة التالية رقم (216) والتى نصت على أن «تقوم الهيئة الوطنية للصحافة والإعلام على إدارة المؤسسات الصحفية والإعلامية المملوكة للدولة.. ..»، هذه المادة يتعين تعديلها للفصل بين المؤسسات الصحفية (القومية) والإعلامية (الإذاعة والتليفزيون) وذلك للاختلاف الكبير أيضاً بين طبيعة عمل كل منهما، بحيث تختص هيئة بالصحف وأخرى بالإعلام. ??? وتبقى الملاحظة الأهم وهى أن الدستور الجديد أغفل النص على الجهة التى تمارس حقوق الملكية على المؤسسات الصحفية المملوكة للدولة (المؤسسات الصحفية القومية) خلفاً لمجلس الشورى، وهو الأمر الذى يثير التباساً كبيراً وغموضاً أكبر بشأن هذه الملكية، باعتبار أن المادة (216) تحدثت فقط عن الإدارة. ??? وفى نفس الوقت فإن النص الدستورى على قيام الهيئة الوطنية بالإدارة يثير المخاوف باعتبار أن ذلك من شأنه فرض التبعية والوصاية الحكومية على المؤسسات الصحفية القومية على غرار تبعية الإذاعة والتليفزيون، وهو الأمر الذى يتعارض بشدة مع حرية الصحافة القومية، لذا فإنه يتعين إزالة هذا الالتباس وتلك المخاوف. n l وقد يكون للحديث بقية l