كل التاريخ تمكن كتابته فى معادلة بسيطة «بالتحدى والاستجابة» هكذا قال المؤرخ الانجليزى «أرنولد توينبى».. وقد قفزت المقولة إلى ذهنى وأنا اتطلع مندهشا إلى تلك الطوابير الممتدة الطويلة من نساء وفتيات مصر أمام لجان الاستفتاء.. فيهن الشابة والتى جاءت تتوكأ على ذراع الحفيدة.. وأخرى حملها ابنها حملًا.. كأنها تسعى بين الصفا والمروة.. وهذه تحاملت على حملها وبجوارها من تحمل طفلها ويمسك الآخر بطرف ثوبها.. نوعيات منهن المحجبة والمنقبة وما دون ذلك ممن تركن الشعر على الأكتاف أو جمعت شتاته فى توكة أو ذيل حصان.. ألوان وأطياف وأشكال وأعمار ومستويات فى طابور اختلطت فيه روائح البرفان الذى يقال إنه فرنسى مع بقايا طبيخ على ثوب قماش رخيص صاحبته أغلى من الذهب.. أسأل نفسى أنا وغيرى: هل يكون هذا الطابور المتنوع الذى يفيض بالحنان والقوة معًا.. مجرد كمالة عدد فى المشهد الوطنى. فى الطابور المهيب الناعم.. رأيت حتشبسوت كانت جميلة وقوية فى نفس الوقت، ولما جلست على العرش ظهرت بملابس الرجال وصنعت لنفسها لحية من ذهب وهى التى كانت تتمنى أن ترتبط بحبيبها المهندس سينحوت مدير بيت الإله آمون.. ولكن هذا الزواج كان سيبعدها عن العرش. وهنا طلبت من الحبيب أن يبنى لها معبدًا جنائزيًا فى سفح جبل طيبة بالأقصر.. لكى تضمن أن يكون بجوارها.. هذا هو الذكاء.. تحول الحب المفقود.. إلى أثر معمارى خالد.. وعلى جدران سجلت حكايتها.. وفى عهدها تحققت نهضة كبرى وأدرك الشعب أنها امرأة بألف رجل مما يعدون. فى الطابور رأيت أم كلثوم ابنة الريف العصامية التى عملت نفسها بنفسها وتحولت إلى حنجرة ذهبية جمعت حولها العرب من المحيط إلى الخليج ونادرًا ما اجتمعوا على شىء، إنها فى الطابور تغنى فى شموخ: وقف الخلق ينظرون جميعا كيف ابنى قواعد المجد وحدى. وهذه أول امرأة فى العصر الإسلامى تتولى الحكم ويدعو لها الخطباء من فوق منابر المساجد كما كانوا يدعون للسلاطين من الرجال قبلها وبدأ العباسيون رحلة إسقاطها، ولما مرض زوجها الملك الصالح نجم الدين أدارت المعركة ضد الفرنسيين وأخفت نبأ وفاته حتى لا تتأثر الروح المعنوية للجنود وهى أول من بدأت تسيير المحمل إلى بيت الله الحرام محملًا بكل شىء يحتاج إليه الحجاج والمقيمون ومعه كسوة الكعبة المشرفة وهى العادة التى اتبعتها مصر منذ حكم شجرة الدر حتى الستينيات.. وأدركت الدولة العباسية أن أمجاد هذه السيدة ترتفع وخجل رجالها وأرسل الوالى العباسى خطابا إلى والى مصر قال فيه: إن لم تجدوا رجلا بدلامن تلك السيدة التى تحكمكم فنحن على استعداد لإرسال رجل! وتهكم رجال الشارع وقتها فى مصر قائلا: ماذا فعل رجالكم يا عباسيين.. وهذه المرأة فعلت ما عجز أشجعكم وأذكاكم عن فعله. فى الطابور.. شابة صغيرة تتطلع إلى مستقبل أخضر فى بيت يجمعها بمن تحلم به.. وقد ضاقت سبل العمل أمام الشباب واكتوى أغلبهم بنيران الغلاء. لقد درست وتعلمت وتحجبت عن قناعة.. وأختها من خلفها فى نفس الطابور محجبة.. وجارتها المسيحية التى هى صديقة عمرها تمسك بيدها.. التى لم تتركها رغم كل ما جرى.. وقيل إنها فتنة وما هى كذلك ولن تكون لأن مصرنا مناخها المعتدل لا يسمح لميكروبات الانقسام أن تنموا وتتكاثر وتتوحش لأن جونا العام ومزاجنا مضاد لهذا الفيروس الملعون ولو أنه تسلل إلى نفوس البعض منا. فى الطابور أرملة ترك لها زوجها الراحل 3 أولاد فى أعمار مختلفة ومعاشًا لا يكفى الحد الأدنى من العيش الحاف.. ولكنها مثل السواد الأعظم يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف.. إنها بالقليل تصبح أعظم. وزيرة اقتصاد فى بيتها.. أضف إلى ذلك مهمتها الكبرى فى التربية والتعليم. فى الطابور عجوز جاءت إلى اللجنة وسمحوا لها بأن تتجاوز الجميع فلم تكن تقوى على الوقوف أو المشى أو حتى الجلوس.. ولكنها تحاملت على نفسها حتى تبلغ الصندوق ولو أنها غابت ما سألها أحد.. وبصرف النظر عن حماستها البالغة لكى تقول نعم رغبة فى الاستقرار.. لكن المفاجأة التى أدهشت كل من تواجد حولها إنها والدة أحد القضاة الذين رفضوا الإشراف على الانتخابات! فى الطابور زوجة أعلنت صراحة فى خفة ظل بالغة أنها كسرت «الكنبة» واستردت لسانها ولن تصمت بعد اليوم ولن تقبل دور الكومبارس فقد عاشت فى ظل حكم مبارك تتوارى إلى الظل.. وقد أدركت كم كانت مقصرة فى حق نفسها وأولادها وبلدها عندما تركت أمرها لغيرها.. ولعل هذه واحدة من أهم حسنات تلك الثورة. المرأة البالغة الناضجة البسيطة اتضح أنها تحمل شهادة الإعدادية لكنها تعرف وتفهم أكثر من حملة الدكتوراة.. وشعارها أن التربية تبدأ من الأم.. وعندما خرجت الأمهات وانشغلن بأمور عديدة فارغة.. ضاع الأولاد.. رغم زيادة أعداد المدارس وارتفاع نسبة التعليم، وتضرب لذلك مثلا بأمهات طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم كم كُن بسيطات لم يحصلن على التعليم لكنهن مدارس فى التربية.. لأن العلم يسهل الحصول عليه. وهذه بائعة على باب الله.. فهمت من الفضائيات أن مستقبل البلد ولقمة العيش ستكون أفضل.. إذا ما ذهبت وقالت نعم.. وقد سمعت عن الزيت والسكر والنقود التى يدفعها البعض للغلابة من أمثالها لكى تقول ما يريدون وتحصل على ما يرضيها.. المسكينة لم تأخذ شيئا.. ولن ترفض لو أن أحدهم طرق بابها واعطاها ما اعطى.. لكنها قررت ألا تكون.. وعفوًا فى التعبير وكما قالت بعضمة لسانها: مثل «البهيمة» وكل من سمعها كان تعليقه:(يسلم لسانك يا ست أم رمزى). وفى الطابور ترى مدام انتصار الموظفة الحكومية.. التى نجحت فى أن تهزم الحياة العسيرة.. تستيقظ فى السادسة صباحا تصلى ثم تعد طعام الإفطار لزوجها الموظف وعيالها فى مراحل التعليم.. ثم تلحق شغلها بالأتوبيس أو الميكروباص أو أيهما أقرب وأوفر.. ثم تعود عند الظهيرة لكى تستكمل معركة الحياة اليومية مع طلبات الأولاد والزوج وهى غالبا لا تنتهى.. وهى لا تكل ولا تمل كأنها مجموعة نساء فى واحدة.. حتى إنها حضرت إلى طابور الاستفتاء تحمل معها شنطة البطاطس والطماطم والخيار فخورة بأن لها حق الاختيار.. وهى تعتبر أن مشاهدتها لفيلم عربى قديم ومعاد فيه إسماعيل ياسين أو عادل إمام مع أولادها وصينية شاى بحليب ولب أسمر وسودانى بالدنيا وما فيها.. وتسأل الله فى كل صلاة مع كل سجدة أن يديم عليها وعلى أسرتها نعمة الستر فى طابور حرائر مصر.. ترى فى الأفق أن هذه البلاد لا يمكن أن تنقسم أو تنكسر فهى إن بدت فى طراوة الملبن.. تبدو فى ذات اللحظة كأنها الفولاذ، فهل تريد المزيد عن الطابور؟!