فصول قصة البلطجة بدأت تحتل صدارة المشهد فى مصر، فى مساء يوم الجمعة 28 فبراير 2011، (جمعة الغضب) عندما خرج المصريون بالملايين، ثائرين على نظام مبارك الفاسد، مرددين شعارات الثورة «عيش، حرية، كرامة، عدالة اجتماعية».. فى مساء ذلك اليوم بدأت المؤامرة الكبرى أيضا ضد الشعب المصري، التى كانت تمثل حائط الصد الأخير لكل أنظمة القمع والاستبداد والديكتاتورية، حيث تم إخلاء مصر بالكامل من أى رجل شرطة. بالتزامن مع هذا الانسحاب الشائن للداخلية، تمت عملية من أكبر العمليات الفاجرة فى التاريخ، لقمع ثورة وقتل شعب، بفتح السجون والمعتقلات على مصراعيها، منها ما فتح بأوامر مباشرة وصريحة، ومنها ما فتح عنوة رغما عن القائمين عليها من الضباط ذوى الشرف والضمير الذين دفعوا حياتهم ثمنا لولائهم لوطنهم وشعبهم. ومنذ هذه اللحظة وحتى وقتنا هذا تحيا مصر كابوسا طويلا تحت عنوان عريض اسمه «الانفلات الأمنى.. والبلطجة»، تتابعت فصوله وتوالت مشاهده العبثية المخزية خلال أكثر عام ونصف العام من قيام الثورة، وما تزل! بعد الثورة، لم تعد «البلطجة» مجرد ممارسات فردية هنا وهناك، تتم فى المناطق العشوائية وأطراف المدن والأحياء البعيدة عن وسائل الإعلام وكاميرات الفضائيات،بل صارت هى الممارسة الأولى والمعلنة فى كل أنحاء البلاد وتغولت لدرجة لا يمكن السكوت عنها، أو التغاضى عنها، ولا التعايش معها، وأصبحت إعلانا فجا على الغياب الأمنى فى الشارع. فرصيد حوادث البلطجة أكثر من أن يعد أو يُحصى، سواء قبل الثورة أو بعدها، فمن أحداث اقتتال أرض وادى النطرون التى أراق «البلطجية» فيها الدماء على جانبى الأرض، إلى المحلة الكبرى فى أحداث 6 أبريل، إلى حوادث مدن ومحافظات مصر المنتشرة بطول البلاد وعرضها، سنجد أن «البلطجة» تربعت على العرش تقريبا، وتحكم كل شىء ومن موقع قريب. ومازال بعض حوادثها البشعة ماثلاً فى الأذهان، منها مثلا قبل الثورة، حينما قام خمسة بلطجية مسلحون باحتجاز حوالى 300 مواطن فى الحى الثامن بمدينة نصر بميدان التبة، وقاموا بعزل المنطقة بأسرها عن العالم الخارجى، ومنعوا الميكروباصات من توصيل المواطنين من مكان لآخر، كرد فعل انتقامى على تلقى صديق لهم يتاجر فى الحشيش رصاصة بجسده بعد صراع مع أحد سائقى ميكروباصات «التبة»! الأصل ليس عربيا تعنى «البلطجة» فى الاستخدام الشائع: فرض الرأى بالقوة والسيطرة على الآخرين، وإرهابهم والتنكيل بهم، وهى لفظ دارج فى العامية، وليس له أصل فى العربية، يعود أصله إلى اللغة التركية، ويتكون من مقطعين: «بلطة» واللاحقة «جى»، أى حامل البلطة، و«البلطة» كما هو معروف أداة للقطع والذبح، و»البلطة جى» استحداث قديم للجيش التركى، فعندما قرر الأتراك غزو أوروبا كان عليهم أن يتوغلوا داخل غابات «هنغاريا (المجر) والنمسا»، فقرروا الاستعانة بحاملى البلطة ليفسحوا لهم الطريق. ثم حدث التحول من مجرد فرقة فى الجيش لها وظيفة محددة لتمهيد الطريق أمام الجيوش الغازية عبر الغابات إلى نظام اجتماعى للاعتداء والجريمة مع توقف التوسع العثمانى وإصابة الامبراطورية بالترهل. أما فى مصر، فقد عرفت القاهرة «البلطجة» منذ زمن بعيد، حيث كان لكل حى من الأحياء ما يسمى ب «الفتوة»، فعقب سقوط الامبراطورية العثمانية لم يتخل «البلطجى» عن عمله وقام بتطويره، لكنه لم يكن بالصورة المثالية التى عرضها أديب نوبل العملاق نجيب محفوظ فى أعماله ورواياته وقصصه التى تناول فيها «عالم الفتوات»، خاصة فى رائعته الروائية «ملحمة الحرافيش». وقد كان يطلق مصطلح «قاطع طريق» فى مصر على «البلطجي» الذى يكمن فى الليل على أحد الطرقات، ويعترض المارة مهددا إياهم بالسلاح الأبيض غالبا، إن لم يتركوا ما فى حوزتهم من مال ومتاع، ويستولى أحياناً على ملابس ضحيته وحذائها، وانتشرت هذه الظاهرة فى مصر عدة قرون، حين كانت الطرق موحشة لا ضوء فيها ولا عمران، وهى مستمرة حتى الآن! التاريخ الثقافى والاجتماعى فى كتابه المهم «مجتمع القاهرة السرى فى الفترة من 1900 إلى 1952»، قدّم الدكتور عبد الهادى بكر، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة الزقازيق، قراءة اجتماعية عن «البلطجى» وفكرة «ثقافة البلطجة فى مصر»، كما قدّم عرضًا تاريخيًا للبلطجة والبلطجية بها خلال النصف الأول من القرن العشرين. وفى هذا الكتاب، الذى يعد واحدا من أهم الأبحاث الاجتماعية التاريخية وأكثرها دقة وشمولا واستقصاء فى مجاله خلال السنوات الأخيرة، كشف فيه مؤلفه عن العالم السرى للقاهرة، خاصة أنه يحتوى على باب كامل تحت عنوان «البلطجة فى بر مصر»، أوضح فيه أن «البلطجة» نظام اجتماعى بنى نفسه طوال القرنين الماضيين، وأن أولى خطوات القضاء عليه هو التحرر من ثقافة البلطجى التى ترسخت فى عقول المصريين. مشاهير البلطجية من الأسماء التى برزت واشتهرت فى عالم البلطجة فى أوائل القرن العشرين إبراهيم عطية، فتوة الحسينية، وخليفته مصطفى عرابى وعبده الجباس «فتوة عابدين»، ورزق الحشاش فى منطقة الدرب الأحمر، وغيرهم الكثير فى أحياء وحارات متفرقة فى القاهرة منها، حارة الفيشاوى التى ينسب إليها مقهى الفيشاوى الشهير فى حى الحسين، والأسيوطى وبيومى الشرقاوى، والغريب أن النساء دخلن عالم البلطجة أيضا فى ذلك الزمن، فمن النساء اللاتى اشتهرن بممارسة البلطجة «الزفتاوية»، و«المغربية»، و«عزيزة الفحلة»، ومن الأجانب فى حارة اليهود برزت أسماء «جداليا»، و«بالميطو»، و«لولى». كان هذا العالم المتكامل يعمل وفق نظام اجتماعى محدد، بعيدا عن أعين القانون، بل بالأحرى خروجا عليه، فقد كان أكثر هؤلاء يديرون مقاه مشهورة فى القاهرة، فارضين «إتاوات» أو «غرامات» على أهل الحى الذى يعيشون فيه، وقد كانت تلك المقاهى هى الأشهر ويجلس عليها أهل الصفوة، ويذكر أن مصطفى عرابى كان يدير مقهى فى شارع الظاهر يجلس فيه الأعيان وأهل الوجاهة، ثم نقله إلى شارع فاروق شارع الجيش حاليا أما عبده الجباس فكان يفرض «إتاواته» على سكان منطقة عابدين وحارة السقايين، من بينهم أحد الباشاوات الذى كان يدفع له جنيهين اثنين شهرياً كإتاوة، وهو مبلغ ضخم جدا بمقاييس ذلك الوقت. ومنذ بدأ «البلطجية» فى تغيير نشاطهم وهم يجدون «الزبون» الذى يستغلهم، فالحقيقة أن نظام «البلطجية» شهد تطورا ملحوظا طوال القرن الماضى، فبعد نظام «الفتونة» ظهر إلى السطح نظام حماية «العاهرات»، فقد كانت منطقة الأزبكية فى بداية القرن عبارة عن سلسلة من الأندية ومجالس الأنس والحانات والمراقص وقاعات القمار، ولكنها تحولت إلى أماكن الدعارة التى تركزت فى منطقة الوسعة وحاراتها، وكان لكل منطقة فى الحى مقاهيها وزبائنها. وقد وصل عدد الحانات فى القاهرة عام 1924 إلى 1136، أى أكثر من محلات البقالة، وبالطبع كان يوازى هذا العدد الكبير من الحانات عدد ضخم من البلطجية المشاهير فى القاهرة فقط، وفى هذا الجو المشبّع بصالات الرقص والمقاهى وشقق المقامرة والمواخير، ظهر البلطجية الذين يفرضون «الإتاوات» على أصحاب هذه الأنشطة، فى مقابل حمايتهم، مهددين بأذية من يعترض طلبهم. ونجح هؤلاء البلطجية فى تكوين امبراطوريتهم بذات سرعة تكوينها كما شهدناها خلال عصر مبارك، فكل عوامل الفساد المستشرى فى أوصال المجتمع موجودة، وقد نجح هؤلاء «البلطجية» فى توثيق علاقتهم بصغار ضباط الشرطة، خاصة ضباط قسم الأزبكية، الذى كان يدار فى ثلاثينيات القرن الماضى من الحانات والصالات التى اتخذها البلطجية مقارا لهم، حيث يحتسون الخمور مجاناً ويأخذون «الإتاوات» من الراقصات. نفسيا واجتماعيا ظاهرة «البلطجة» عموما ليست جديدة، بل لها جذور اجتماعية، وتحدث بنسب متفاوتة فى مختلف مجتمعات العالم، وهى بالنسبة لمجال الطب النفسي، أحد أنواع الانحرافات السلوكية التى تحدث نتيجة الاضطراب فى تكوين الشخصية سواء الفردية أو القومية، هذا الاضطراب قد يتحول إلى نوع من الانحراف والجنوح، وهو الذى يطلق عليه فى علم النفس «الشخصية المضادة للمجتمع»، ولعل فى هذا المصطلح وصفا لما يحدث من خروج على قوانين المجتمع، وعدم التوافق مع الآخرين. ومن اللافت للنظر، أنه مع التقدم النسبى فى وسائل وأساليب المعيشة وتطور أنماط الحياة العصرية، فإن هذه الظروف، ورغم أننا نعيشها الآن فى العقود الأولى من الألفية الثالثة، ظروفٌ يعدها المتخصصون مهيأة لعمل «البلطجى». ويشير عدد من الباحثين إلى أن ثقافة اليوم تعتمد «العنف» أساسا ووسيلة لحل المشكلات، فقد يكفى «البلطجى» أن يرتكب أفعالا عنيفة مرة واحدة لكى يهابه الناس ويخافونه، ويتجنبوا الاحتكاك به، بل يخضعوا لكل ما يطلبه، وفى الأساس فإن ما دفعه إلى ارتكاب مثل هذه الأفعال هو «الفقر». ضحايا البلطجة قبل الثورة طوال العقود الثلاثة الأخيرة، وهى عمر نظام مبارك الفاسد، كانت «البلطجة» هى الذراع الوحشية القذرة لتأديب خصوم النظام وترهيب المعارضين وإسكات من يفكرون مجرد تفكير فى معارضته، تحت سمع وبصر وحماية وأمر أجهزة الأمن المصرية التى كانت فى خدمة النظام وتفرض سطوته وبطشه على المصريين، ومن ثم توالت صور من العنف وأشكال من الاعتداء للتعامل مع أهل الرأى والقلم، ولا سيما مع الصحفيين لم تكن معهودة من قبل، ولم يرد على بال أكثر المتشائمين تشاؤماً أن تكون تلك الوسائل مما يتخذ سبيلاً للتعبير عن عدم الرضا عما يقال أو يكتب أو ينشر. وفوجئ الرأى العام المصرى، خلال السنوات العشر الأخيرة من حكم مبارك، بتعدد حوادث الاعتداء بالضرب من قبل بلطجية مأجورين على عدد كبير من الإعلاميين والصحفيين المشهورين بمعارضتهم للنظام وانتقاد سياساته، على تفاوت فى النبرة ودرجة الانتقاد ومساسها برأس النظام أو رموزه، نذكر منها حادثة الاعتداء على الكاتب الصحفى والإعلامى المعارض عبد الحليم قنديل مدير تحرير جريدة العربى الناصرى، آنذاك. كما قام «بلطجية» بالاعتداء بالضرب على الكاتب الصحفى مجدى أحمد حسين، وهو رئيس لتحرير صحيفة الشعب قبل إغلاقها فى وضح النهار فى أحد أهم شوارع القاهرة وأكثرها ازدحاماً، وعلى بعد أمتار من مديرية الأمن. واعتدى «بلطجية» بالضرب على الكاتب الراحل والصحفى الكبير جمال بدوي، وهو رئيس لتحرير صحيفة الوفد، فى أهم شوارع القاهرة على الإطلاق، وعلى مقربة من عدة أماكن ذات أهمية عسكرية ولها حراسة عسكرية، وغير بعيد من مقر إقامة زعيم البلاد المصطنع ورئيس جمهوريتها المزعوم.. وكان كل هؤلاء البلطجية مجهولين، ولا يزالون! فى مرآة الرواية لعل رواية «أجندة سيد الأهل» للروائى أحمد صبرى أبو الفتوح، التى صدرت عقب ثورة 25 يناير بعدة أشهر، قد جسدت نموذجا دالا ومعبرا للبلطجى، صنيعة السلطة، و «رباية الشرطة»، كى يكون منفذا لأوامرها وقاتلا وقت الحاجة ضد معارضيها، فالرواية تتناول ثورة الخامس والعشرين من يناير، لكن من منظور مختلف إذ تتتبع قصة تاجر مخدرات صغير «ديلر»، هو أحد البلطجية الذين أطلقتهم الشرطة من السجون لترويع الشعب ومحاولة إجهاض الثورة، ومراحل تطورها وآليات عملها، ومن هنا يمكن اعتبار نماذج وشخوص الرواية قادرة على أن تخرج من المحلية المصرية لتفسر كيفية صناعة الثورة المضادة فى المنطقة العربية ككل. يبدأ الفصل الأول يوم الخميس 27 يناير، فى الليلة السابقة لجمعة الغضب، وتنتهى أحداث الرواية فى 2 فبراير، يوم مقتل بطلها البلطجى،ولا يركز الكاتب تصويره الروائى على ما حدث فى ميدان التحرير فى هذه الفترة، لكنه يتناول الثورة المضادة التى اعتمدت على «البلطجية» ولتصوير ذلك كان لا بد أن يخوض فى سيرة «البلطجي» ومستأجره، السيد والتابع، الجلاد والضحية، فكانت سيرة فصل أسود من تاريخ الوطن. كأن الفترة الوجيزة التى لم تتجاوز سبعة أيام استدعت حكى عقود من التاريخ الشخصى والعام لتلوح إمكانية تفسير ثورة مضادة للحرية والكرامة. «أجندة سيد الأهل» رواية شخوص وحيوات تقاطعت مع اندلاع الثورة، مسألة توقيت ومصادفة لم تكن فى مصلحة البلطجي»رفاعة صابر سيد الأهل»، الذى بدأ الأمر باعتقاله فى شكل غير قانونى، وانتهى الأمر بقتله فى شكل غير قانونى أيضا، كما بدأت الرواية بعمار النجدى الشهير بتايسون وانتهت به وهو يطعن «رفاعة». لم يكن خروج «رفاعة سيد الأهل» من قبو التعذيب الذى قضى فيه ستة أشهر، ثم مقتله على يد رفيق التعذيب تايسون إلا نتيجة واحدة لحزمة من التحالفات الدنيئة التى جاءت الثورة ضد مصلحتها وضد وجودها ذاته. ومن هذه النقطة الزمنية أى 27 يناير تقرر هذه التحالفات أن خروج كل من تم القضاء على كرامتهم وإبادة إنسانيتهم فى أقبية التعذيب هو الحل الأمثل لمواجهة الثوار. إن ما كان يحدث تحت الأرض فى دهاليز الأروقة «الأمنية» يكفى لإنتاج إنسان (إذا جازت التسمية) «مسخ»، «مشوه»، لم يعد لديه ما يبقى عليه فى ذاته أو فى الآخرين، لأنه فقد كل شىء ولم يعد يعرف سوى الجلاد. بهذا المعنى يتحول نموذج «البلطجي» من أمثال تايسون، اللنش، سيد القماش، تيمور الناعم، الأعور، إلى ضحية بكل معنى الكلمة. وتقع هذه الضحية فى يد تحالف لا يرحم: صفوت البيومى الذى يمثل رأس المال القائم على تجارة المخدرات، الشيخ أبو داود الجهينى الذى يمثل سلطة الكلمة الزائفة، وكل جلادى الأمن المسئولين عن تحويل المتهم إلى «مسخ بشرى» فاقداً كلَّ المقومات الإنسانية مثل اللواء عاصم الإمام، والرائد مجدى الحسينى. ومن باب التعاقد الضمنى بين الكاتب والقارئ يصبح من الواضح أن هذا التحالف يخضع لمن هو أعلى منه سلطة وبطشا،فالبلطجى الذى ينفذ مخطط الثورة المضادة ليس إلا نتيجة شكلية، قشرة خارجية تخفى طبقات من الفساد والتآمر والفجور الكامل. وأخيرًا.. قال أحد الكتاب المصريين فى عبارة دالة وقوية على منتهى الإصرار فى مواجهة البلطجية إحدى الأذرع الأخطبوطية لأى نظام قمعى مستبد، قديما كان أو سيكون، قال: لم نعد نخشى أحدًا ..والحق والعدل سيكونان المنتصريْن اليوم أو غدًا.. لستُ خائفًا فعلا من البلطجية.. المجد للشهداء».