عرفت القاهرة البلطجة منذ زمن بعيد، فكان لكل حى من الأحياء ما يسمى ب "الفتوة"، لكنه لم يكن بالصورة المثالية التى عرضها الأديب الراحل نجيب محفوظ فى رواية الحرافيش والعديد من رواياته الأخرى، فظاهرة البلطجة نشأت وازدهرت فى مناخ مجتمع الدعارة والبغاء الذى كان سائدًا فى القاهرة خلال النصف الأول من القرن العشرين، ذلك أن البلطجى وجد فى الأصل ليكون حاميًا للمومس، يدافع عنها، ويساعدها فى الحصول على حقوقها (المزعومة) مقابل مبلغ يتفق عليه، أى أنه كان "ديوثًا" يتاجر بقوة جسده فى أحط مجال، وفى أحقر سوق. من الأسماء التى برزت واشتهرت فى هذا المجال أوائل القرن العشرين، إبراهيم عطية "فتوة الحسينية"، وخليفته مصطفى عرابى، وعبده الجباس "فتوة عابدين"، ورزق الحشاش فى منطقة الدرب الأحمر، وغيرهم الكثير فى أحياء وحارات متفرقة بالقاهرة، ومنهم: الفيشاوى (الذى تنسب إليه مقهى الفيشاوى المشهورة بحى الحسين)، والأسيوطى، وبيومى الشرقاوى، ومن النساء "الزفتاوية" و"المغربية" و"عزيزة الفحلة"، ومن الأجانب بحارة اليهود برزت أسماء مثل: جداليا، وبالميطو، ولولى. كان أكثر هؤلاء يديرون مقاهى شهيرة فى القاهرة، وكانوا يفرضون إتاوات على أهل الحى الذين كانوا يعيشون فيه، ويذكر أن مصطفى عرابى كان يدير مقهى فى شارع الظاهر يجلس عليه الأعيان وأهل الوجاهة، ثم نقلها إلى شارع فاروق (شارع الجيش حاليًا)، أما عبده الجباس فكان يفرض إتاواته على سكان منطقة عابدين وحارة السقايين، ومنهم أحد الباشاوات الذى كان يدفع له جنيهين شهريًا كإتاوة. كانت المعارك تدور فى ثلاثينيات القرن بين من كانوا يسمون "البشاكرة" وهم كانوا مساعدى الجزارين، وبين الجزارين أنفسهم، فى حى السلخانة بالقرب من ميدان السيدة زينب، إلى جانب معارك فردية بين فتوات الحسينية وبعض الأحياء، وكانت أهم معاقل هؤلاء البلطجية هى عزبة الصفيح بالعباسية، وعزبة البراك فى شبرا، وعشش الترجمان فى بولاق، والترعة البولاقية بشبرا، والخليفة، وزين العابدين بالسيدة زينب. البرمجى والبلطجى! منطقة الأزبكية فى بداية القرن كانت عبارة عن سلسلة من الأندية، ومجالس الأنس، والحانات، والمراقص، وقاعات القمار، إلى جانب دور الدعارة التى تركزت فى منطقة الوسعة وحاراتها، وكان لكل منطقة فى الحى مقاهيها وزبائنها، ومن أشهر حانات ذلك الزمن، "كافيه إجيبسيان"، و"دراكاتوس"، و"الإلدرالدو"، إلى جانب العشرات من البارات الصغيرة، التى تديرها مومسات منطقة وش البركة الأجنبيات. كل مومس من المومسات، كانت تتخذ لها خليلاً (رفيق) يسمى "البرمجى"، وكان هذا البرمجى فى مقام الزوج للمومس، فهو يوفر لها الحماية، والدفء الأسرى، ويعيش معها فى بيت واحد كأنهما زوجان لكن بدون وثيقة زواج، وفى المقابل فهى توفر له حاجاته الجنسية بدون مقابل، بل وتغدق عليه بالمال والعطايا، وإذا دامت العلاقة بينهما بالود والمعروف يسمى "برمجى"، أما إذا اتسمت بالعنف والإجرام فيسمى "بلطجى"، وفى كلا الحالتين تعيش المومس فى كنفه. فؤاد الشامى خلال الربع الأول من القرن العشرين، انتقلت ملاهى الأزبكية إلى شوارع عماد الدين، والألفى بك، وشارع فؤاد، وانتشرت البارات والصالات والمراقص فيها، إلى جانب انتشارها فى مناطق التوفيقية، والإسماعيلية (ميدان التحرير حاليًا)، وبمضى الوقت تخلى البرمجية الأجانب عن إدارة صالات الرقص والبارات والمقاهى، وحل محلهم البرمجية المصريون، وأصبح لكل محل من هذه المحال بلطجى لحماية المحل، وتأديب الزبائن الذين يرفضون دفع ما تتناوله السيدات من مشروبات. وصل عدد الحانات فى القاهرة عام 1924 إلى 1136 (أكثر من محال البقالة) وفى هذا الجو المشبع بالخمر، وصالات الرقص، والمقاهى، وشقق المقامرة، والمواخير، ظهر البلطجية الذين يفرضون الإتاوات على أصحاب هذه الأنشطة، فى مقابل حمايتهم، ويهددون بإيذاء من يعترض طلبهم!! واختص هؤلاء البلطجية الراقصات والمومسات بالقدر الأكبر من مطالبهم، باعتبارهم أول فئة فى المجتمع عرضة للإيذاء، وأسرعهن فى الاستجابة بالدفع، لعلمهن بخطورة التهديد بالإيذاء البدنى، والذى يأتى فى مقدمته تشويه الوجه بماء النار. نجح هؤلاء البلطجية فى توثيق علاقتهم بصغار ضباط الشرطة، وخاصة ضباط "قسم الأزبكية" الذين كانوا يديروا فى ثلاثينات القرن الماضى من الحانات والصالات التى اتخذها البلطجية مقارًا لهم، حيث يحتسون الخمور بلا مقابل، ويأخذون الإتاوات من الراقصات والمومسات، وأصحاب الأنشطة المشابهة، وكانت أشهر عصابة من البلطجية فى ذاك الحين هى عصابة فؤاد الشامى وشقيقه مختار. مقتل امتثال فوزى كانت امتثال فوزى من الراقصات اللاتى حققن شهرة كبيرة فى القاهرة فى ذلك الزمن، بفضل مهارتها فى الرقص والغناء، وكانت من تلاميذ بديعة مصابنى، ثم تركت العمل مع بديعة وشاركت زميلة لها تدعى مارى منصور فى صالة بعماد الدين، وحققت نجاحًا كبيرًا، كما حققت ثراءً كبيرًا أيضًا، فاشتركت مع مارى منصور فى إدارة كازينو البوسفور بمنطقة الأزبكية، وكان البوسفور فى حقيقته صالة رقص، وبوصفه الأخير هذا كان يدخل فى إطار نفوذ كبير بلطجية عماد الدين وقتها فؤاد الشامى وشقيقه مختار. افتتحت امتثال صالتها الجديدة فى 2 مايو 1936، فاتصل بها فؤاد الشامى عارضًا لها خدماته لحمايتها، فرفضت، وفى أكثر من مناسبة أمرت بطرد ذلك البلطجى وأعوانه من الصالة، عندما كانت تراهم يحتسون الخمور بلا مقابل، ولجأت إلى قسم الأزبكية الذى لا يبعد عن صالتها بأكثر من 500 متر، وهناك قال لها الضباط المرتشون أن دورهم ليس حماية الناس من التهديد، وإنما ضبط الجناة بعد حدوث الواقعة!!. ثم تعرضت للضرب ليلة 15 مايو، فاتجهت لقسم الأزبكية ثانية، وحررت المحضر رقم 1870 لسنة 1936 جنح الأزبكية، لكن ضباط القسم المرتشين أخلوا سبيل الشامى وعصابته دون عرضه على النيابة!!، فاتصل بها أعضاء العصابة يوم 22 مايو، وهددوها بالقتل إذا لم تدفع الإتاوة، فاتجهت مرة ثالثة لقسم الأزبكية، وأبلغت بواقعة التهديد، لكن الضابط المختص صرفها من القسم، وبعد ساعتين من عودتها من القسم وأثناء مرورها على صالتها للإشراف على العمل، اعتدى أحد أفراد عصابة الشامى عليها بزجاجة خمر مكسورة، استقرت فى رقبتها فسقطت قتيلة!! أثبتت التحقيقات أن فؤاد الشامى كان يتزعم عصابة تخصصت فى فرض الإتاوات على أصحاب الصالات، والراقصات والمومسات، وكانت تضم شقيقه مختار الشامى، المتهم فى جنايتين وعدة جنح أخرى، وتم إحالة أعضاء العصابة إلى المحاكمة، وتم الحكم على فؤاد الشامى ورجل عصابته الذى قتل امتثال بالأشغال الشاقة المؤبدة. وقد تناولت جريدة الأهرام هذه القضية على هذا النحو: راقصة تذبح فى ملهى عام لرفضها دفع الإتاوة للفتوات ( عدد 23/5/1936). جريمة البوسفور الوحشية (عدد 24/5/1936). عصابات عماد الدين تنافس عصابات شيكاغو (1/6/1936). وقد قدمت السينما المصرية هذه القصة فى فيلم بعنوان "امتثال" قامت ببطولته الفنانة ماجدة الخطيب، وأخرجه المخرج حسن الإمام. الآن .. عاد البلطجية من جديد لحكم مصر منذ سقوط الشرطة فى 28 يناير 2011.