في روايته الجديدة "أجندة سيد الأهل" قارب صاحب ملحمة' السراسوة' المقدمات المنطقية لثورة يناير!. روائي أدرك الكوامن فكتب عملا مدهشا يحفظ علي الثورة وهجها, ويحذرنا من مخاوف تحيق بها من كل صوب!. فأوجع قلوبنا بأحزان' رفاعة صابر سيد الأهل', إبن مناضل عمالي شريف. خصه أبوه باسم رائد التنوير' رفاعة الطهطاوي', لعله يترسم خطاه في مدارج العلم, وكابد من أجل ذلك مختلف المشقات في تربيته هو وأخوته, لكنه فارق الحياة قبل انطلاق أحلام كانت تحوم في صدره باتجاه السماء. ورث' رفاعة'همة والده, واضطلع بهموم عائلته, فسد أباطرة الحزب الوطني سبل الرزق الشريف في وجهه, ولم يتيحوا له إلا دهاليز تجاراتهم الحرام, وحين استشعروا اعتداده بكرامته وتاريخ والده, أوكلوه لرجال أمن بلا ضمير أثخنوه ملاحقة واعتقالات هرسوا بها آدميته وانتهكوا شرفه, ولما بلغت المهانة ذراها سجل أسماء من أهدروه في أجندة لساعة انتقام تحينها. و واتته الفرصة مع اندلاع الثورة وهو حبيس إحدي زنازينهم, فهرب ضمن من هربوا. و في أيامها الأولي وقف ممزقا حول التحرير, تتنازعه النقائض, فبينما انحازت جيناته النضالية النظيفة ومال قلبه للثوار, ظل جسده وسط البلطجية وزملاء السجن الذين شكلوا حزاما وحشيا تربص بالميدان. وبقدر رغبته في الهتاف ضد الظلمة, كان شوقه للانتقام منهم أكبر فأبقاه بين المجرمين, لعله يظفر برجال الحزب وأمن الدولة والشيوخ الفاسدين المسجلة أسماؤهم في أجندته فيشفي غلته. لكن قدره ساقه إلي قلب الميدان, ليستشهد برصاص قناص في لحظة استثنائية, ردت عليه كرامته المهدورة, وبدت تكريما لروحه المعذبة, وأرواح كل من ناضلوا لأجل الشعب ولم يدركوا الثورة. كست وجهه ابتسامة لم تعرف طريقها إليه وهو حي.. ربما أراحت قلبه ومحت آلامه قبل موته!!. البعض يري الكتابة عن ثورة يناير الآن نوعا من التعجل؟ أليس ثمة من يمكنه استيعاب الحدث واستلهامه في عمل إبداعي؟ أعتقد أن مقولة التعجل غير صحيحة, فالحدث الملهم يمكن التعبير عنه بأشكال مختلفة, تشكيليا وشعريا وروائيا, وحتي بصورة يوميات, وأنا تعاملت مع الثورة بصيغة الرواية, وكنت واعيا طوال الوقت أنها تجري علي الأرض ولم يكتمل فعلها بعد, فأمعنت في البحث وراء ظواهر كانت قائمة قبل الثورة وتفاعلت أثناء حدوثها, مثل ظاهرة البلطجة التي حتمت علي الروائي بداخلي الغوص في أعماقها, وهو ما ينفي فكرة التعجل, ركزت بوضوح علي آلام' المسكوت عنه' وهي كثيرة في حياتنا, وشكلت المقدمات المنطقية للثورة, فهل الثورة تحديدا سبب كتابة الرواية؟ يقينا الثورة سبب كتابة هذه الرواية, بل إن' رفاعة صابر سيد الأهل' و"عمار بن ياسر" (تايسون) ولدا في خيالي معا يوم 27 يناير 2011 مساء عندما أطلق البوليس البلطجية علي المجتمع. ونحن في المنصورة خرجنا يومي 26 و27 يناير ولم نتوقف عن التظاهر. حيث رأيت بنفسي أحد البلطجية يقتل شابا جميلا بجواري, أطاح رأسه بالسيف, وفي تلك اللحظة تعلقت عيناي بأعماق عيني البلطجي الذي اتجه ناحيتي للحظات ولا أدري ما الذي صرفه عني باتجاه آخر, وحين آويت إلي مكتبي في ذات الليلة كان' رفاعة سيد الأهل' وتوأمه' تايسون' قد تشكلا في مخيلتي, وكتبت حينها أول جملة في الرواية وهي:' ليس في أسرة سيد الأهل كلها من سمي بهذا الاسم.. رفاعة.. لكن..', وكان لابد أن يكون' رفاعة', وأن يكون ابن المناضل' صابر سيد الأهل'. تداعيات الثورة السياسية كانت ثرية لحد مذهل, فهل أغنتك عن القراءة في تاريخ الثورات تأهبا للرواية؟ أوافقك الرأي, فالمشهد السياسي أثناء الثورة كان بالغ الغني, وكان شديد الوضوح للمخضرمين, لذا لم أعان في وضع شخصياتي علي جبهات القتال في الثورة, لكنني عموما متيم بقراءة تواريخ الثورات, وأي كاتب جاد لا تفوته القراءة عن الثورتين الفرنسية والروسية, وثورة القاهرة الأولي والثانية, وثورات 19 ويوليو, و18 و19 يناير 1977, لأن تأثيرات تلك القراءات علي الأدب عميقة. عملت بالنيابة لعشر سنوات, فهل أفادك هذا في التفاصيل التي ازدحمت بها الرواية, مثل تلفيق الشرطة' لرفاعة سيد الأهل' تهمة الاتجار في المخدرات, وما الفارق بين رؤية وكيل النيابة والروائي؟ سألني الأستاذ الأديب' أبو المعاطي أبو النجا' بعد قراءته الرواية عن أكثر المهن إفادة للكاتب, وأجاب هو بأن الطبيب ووكيل النيابة هما أكثر مهنتين تفيدان الكاتب, وأعتقد أن عملي بالنيابة لعشر سنوات والمحاماة لثمانية وعشرين أخري جعلاني أفهم كثيرا من الأسئلة الوجودية المتعلقة بالإنسان في أحرج لحظات القهر والخوف والحصار واليأس, وربما يكون هذا واضحا في الرواية. رصدت تداعيات الثورة المضادة من حزام البلطجية حول ميدان التحرير إلي موت' رفاعة سيد الأهل', فهل تفاقم الوقائع إلي الآن يمكن أن يلهمك جزءا ثانيا للرواية؟ 'شهدي' و'صفية' يلحان علي بشكل كبير, أنا شفت شهدي ميتا في' واقعة ماسبيرو', وشفت صفية في أحد ائتلافات الثورة تضع علي رأسها عصابة الحداد, ورأيت بخيالي البلطجية' تايسون وتيمور والقشاش' يلعبون أدوارا مختلفة متعلقة بأحداث الثورة, لكني لم أحزم أمري بعد, وهناك' أبو داود الجهيني' وهو صنو' تايسون وتيمور', انقض علي الثورة وصار مشرعا يلح علي لأكتبه, وأنا أفكر بعمق في الأمر. ' رفاعة صابر سيد الأهل' ابن مناضل يساري أوقعته ظروفه القاسية فريسة للنظام السابق وحولته إلي بلطجي, فبدا فصلا حزينا من حياة أمة مهيضة, فهل قضي نظام مبارك عمدا علي طهر الروح النضالية, وأحلام الطبقة العاملة؟ سأعود بك إلي ما قبل محنة مصر تحت رئاسة حسني مبارك, إن القضاء علي الروح النضالية بدأ بسرقة انتصار أكتوبر 1973, عندما عاد المقاتلون الذين حققوا النصر إلي البطالة والفقر والتهميش, واعتلي وجه الحياة المتجرون بالدين, والمخدرات, وبتزييف التاريخ, في تلك الفترة انتقلت مصر من بلد يسترد كرامته ويقينه بقدرته علي خوض غمار الحياة إلي بلد يعتليه الفاسدون والطفيليون والحاقدون علي تاريخه ومقدراته ولصوص المال العام, وما مرحلة مبارك إلا امتداد طبيعي وذروة هذه المسيرة الانقلابية, والاختلاف في الدرجة لا النوعية, وكان قدر مناضل مثل' صابر سيد الأهل' أن يصطدم بسلطة وطنية ذات توجه اجتماعي تحت قيادة عبد الناصر بسبب الحريات, وبسلطة اعتمدت التبعية تحت قيادة السادات, وسلطة غاشمة لصوصية خيانية تحت قيادة مبارك, الأمر الذي قصم ظهر الروح النضالية إلا قليلا, وأغلق كثيرا من الأبواب في وجه أحلام الطبقة العاملة والفلاحين. علي نحو ما بدوت متعاطفا مع البلطجية' تايسون واللنش وسيد القشاش وتيمور الناعم والأعور'؟ البلطجية ضحايا نظام سياسي واجتماعي ظالم بامتياز, طرد الناس جماعيا من جنة الثروة والكرامة الوطنية, ولم يكن أمام هؤلاء إلا ممارسة التطفل علي نظام اجتماعي مغلق انعدمت فيه فرص العمل لايمكن معه وجود فرصة للترقي الاجتماعي إلا الانغماس في الجريمة, ولقد تنبه النظام البائد والحالي للأسف لهذه الظاهرة فوظفها لتأديب المعارضين, ولا أمل في استيعاب هذه الاشكالية المركبة (الظالم المظلوم) إلا إذا قبضت الثورة علي السلطة, ساعتها ستكون الأسئلة الاجتماعية مطروحة أما في الوضع الحالي فإن كل الأسئلة الاجتماعية التي كانت محظورة لدي النظام السابق هي أيضا محظورة الآن, يكفي أن النظام يرفض بعناد تحديد الحد الأدني للأجور, أو وضع سقف للحد الأعلي. أتعتقد أن الثورة أسقطت ذلك التحالف الجهنمي بين فلول الحزب الوطني المنحل' صفوت البيومي' والشيخ' أبو داود الجهيني' مفتي السلطان, ورجال أمن الدولة' اللواء عاصم الإمام' والرائد' مجدي الحسيني' الذين كانوا يستخدمونهم؟ أم أن المشوار ما يزال طويلا؟ التحالف الجهنمي منعقد بين فلول النظام البائد القائم وبين التنطع باسم الدين وبين النظرة الاستعلائية لأذناب محترفي التآمر الأمني وبين الانتهازية المتمثلة في تنظيمات سياسية تفتقر إلي الشرف والخيال والدفء الاجتماعي, والثورة للأسف لا تمتلك أية أداة لاسقاط هذا التحالف سوي الإصرار علي التواجد في الميدان وفي الشارع ولكن بأعين مفتوحة هذه المرة. هل قصدت بموت رفاعة في ميدان التحرير تكريم روحه تقديرا لعذابه؟ نعم.. كنت في أمس الحاجة لتكريم رفاعة, فكما شهد ميدان التحرير عرسه الأصغر بزواجه من صفية, شهد أيضا عرسه الأكبر وهو استشهاده, وقصدت التلويح بتحية لتاريخ اليسار المصري, وأن أرد شيئا من اليقين إلي أرواح أساتذتي من المناضلين التي تفتقر إلي العزاء, كنت ألوح لأحمد نبيل الهلالي وزكي مراد وفريد عبد الكريم وكل المناضلين الشرفاء الذين رحلوا قبل أن يروا هذه الثورة, وأيضا أردت أن أكرم' الشهيد المبتسم'.. رفاعة.. الذي ما زالت تغمرنا ابتسامته.