تحتفل الأوساط الثقافية في مصر بنجيب محفوظ في عيد ميلاده المئوي الذي يوافق الحادي عشر من ديسمبر.. وخلال هذا العمر الطويل والممتد فإن الكاتب الكبير قد فاض بثراء إبداعي يتّسم بالعمق وجلاء البصيرة في صياغة مختزلة تقْتنص الحكمة والرمز معاً. ولقد قدم في مسيرته الإبداعية أعمالاً متفردة استوعبت آليات الفن الروائي تاريخياً وواقعياً وتعبيرياً ورمزيا.. مما يعني وعيه التام بما يطرأ علي فن القص من آليات في البناء والدلالة واستطاع بوعيه الفكري أن يتحاور مع الأنظمة في تنوعها حتي يظل قادراً علي تقديم فكره الروائي الحامل لرؤيته للكون والإنسان والمجتمع معاً، وكشف عن قدرته في قراءة الواقع وما يتضمنه من متغيرات تسائل السائد من القوانين الحاكمة، واستشعر بذلك ما تنطوي عليه القلوب من رغبات تتوق إلي التحرر من قيد الحاجة وفرض الهيمنة. وتميز أدب الكاتب بالثراء، والتنوع العميق في الألوان، وبالواقعية ذات الرؤي الصافية والغموض المثير بدلالته النافذة، كما أن أدبه يخاطب الإنسانية. ونجيب محفوظ يتسم بشفافية واضحة، وبصيرة نفاذة ورهافة إيمانية لها فيضها الذي يتبدي في أعماله الإبداعية، ويحضرني في هذه المناسبة حديث أدلي به بعد أزمته مع الفكر المتطرف.. قال: «أقمت حياتي علي حب العمل، وحب الناس وحب الحياة وحب الموت».. ولفت انتباهي تعبير «حب الموت» وهو تعبير يدل علي إيمان عميق ونفس رضية وذات مطمئنة القلب وفكر متصالح.. والتعبير «حب الموت» يحاكي الحديث الشريف «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا»، والموت بهذا المعني الدلالي ليس بعيداً عن أدب نجيب محفوظ. ولقد برز الحس الإيماني مترقرقاً تحت البناء اللغوي، ولاح الموت حقيقة لا تحتمل الشك، وهو - في الدلالة - لا يعني الجدب أو الفناء، وإنما هو أحد عناصر الجدل في الحياة، والخوف منه يعطي للحياة قيمة ويستدعي القلق الوجودي، ويظل هاجس الموت كشريان خفي تحت نهر الحياة، والموت - كما ورد في «دنيا الله» - يسري بلا ضوء.. وهو كالظلام لا شيء يؤخره عن موعده، وفي قصة «موعد» يتجلي العجز واضحاً أمام لغز الموت «إنه يقف أمام لغز قوي قهّار لا نجاة من عبثه». لكن الحياة تمضي رغم ترصُّد الموت وهو المعني العميق وراء النص الأدبي. ولقد رصد نجيب محفوظ درجات التحول والتغير الذي طال المجتمع بدءاً من عبق الجمالية بحاراتها وقبابها وناسها إلي الوطن بمدنه وأماكنه وعالمه المتنوع، وقدم في إبداعه الروائي عالماً مترعاً بالجمال والقيمة وعمق الدلالة، ومن ثم جاء الإبداع متفاعلاً مع الفكر السياسي وآلياته بحكم التشابك مع الحياة ومع المواطن في سعيه إلي الأفضل والأجمل، وتحقق التأثير الملموس في حركة الحياة وتشكيل الوجدان الإنساني. ورصد الإبداع الروائي في ظل المتغيرات السياسية ما كان يحدث من عنف سياسي، وقهر بدني ونفسي، وكشف الزيف عن الشعارات البراقة ووقوع المجتمع في تجارب خلفت أحزانا ثقيلة. في رواية «الكرنك» أدان نجيب محفوظ.. الاستبداد والديكتاتورية اللذين مارسهما النظام، والعنف الواقع علي أبناء الوطن، وتعالت الدعوة إلي الحرية والعدل وكرامة الإنسان، ووجهت الرواية النقد للنظام السائد والتي ألقت النكسة بظلالها علي النفوس، ولقد واجه أبطال الرواية ومنهم «زينب دياب» تُهمة العداء للنظام وللثورة، فانتهك عرضها، وأرغمت علي أن تكون عينا علي الآخرين لصالح المخابرات، واعتقل الآخرون، ومات من مات في السجن أو بالتعذيب.. وأدانت الرواية رموز النظام ممثلة في «خالد صفوان» والتي أدت إلي الاغتراب الذي سقط فيه المواطن. وفي رواية «الحب تحت المطر» يعيش «إبراهيم» تجربة الموت لحظة بلحظة في جبهة الحرب، ويحيا علي أمل أن يرد اعتباره أمام ذاته وأهله ووطنه حتي يلتئم ما انشطر منه، وفي الوقت الذي سادت فيه روح اليأس كان مقتنعاً بأن القتال الحقيقي - من أجل النصر- آت لا ريب فيه، وأن نسمة الحرية ستملأ الصدر وتدفع بحياة عارمة، وصورت الرواية نماذج من الشباب الضائع سياسياً واجتماعياً ويتساءل، «إبراهيم» وهو يري الانكسار في العيون .. كيف يأتي يوم نحلم فيه بالنصر والشباب ضائع وغير منتم؟!! وإذا كان إبداع نجيب محفوظ - كما أشارت أكاديمية نوبل- يتسم بالثراء والتنوع وبالواقعية ذات الرؤي الصافية، ومخاطبته للإنسانية، فإن رواية «أولاد حارتنا» التي تتخذ من حركة التاريخ مادتها، والتي تستلهم شخصياتها تثير التساؤلات، فهي تتخذ من حركة الأديان مادة للسرد الروائي الذي يعج بالحياة والحركة ويحتدم كالملاحم ، ويبرز وجهة النظر- كالجدل التاريخي- في تطور الأجيال والأفكار والصراع بين العدل والظلم، والإيمان والكفر. والرواية عمل ملحمي مصوغ علي مستوي الرمز الكلي صياغته ترصد حركة الإنسان منذ الخلق الأول وحتي عصر التنوير الذي يعلي من قيمة العلم والمعرفة. ولقد حاولت الرواية التعبير عن الدلالة التي وردت في الافتتاحية «الناس تحملوا البغي في جلد، ولاذوا بالصبر، واستمسكوا بالأمل، وكانوا كلما أضر بهم العسف قالوا: لابد للظلم من آخر ولليل من نهار، ولنرينّ في حارتنا مصرع الطغيان ومشرق النور..». ولعل المقصود من الرواية هو كما يقول نجيب محفوظ.. «ماذا سيفعل الأنبياء لو نزلوا حارتنا». ولقد رصدت القراءة النقدية للرواية ثنائية الجدل بين الشعب / الفقراء والمظلومين، وبين الحاكم/ الناظر والفتوة. وارتقت الثنائية إلي مستوي الرمز التاريخي في إشارة إلي حركة الأديان ودعوتها إلي رفع الظلم ومواجهة الطغيان ومن ثم مثلت الحارة رمزاً للإنسانية علي مدي التاريخ البشري بما تواتر عليها من مخلصين/رموز دينية، قاموا برفع الظلم الواقع علي أهلها ومواجهة الطواغيت /انظار الوقف والفتوات. إنها رواية تصور رحلة الضمير البشري كما عبرت عنه الأديان وما قدمه العلم من مناهج وأفكار. وإذا كان العدل محوراً أساسياً في الرواية فإننا نجده أيضاً في درته الروائية «الحرافيش» حيث السعي الحثيث نحو تحقيق العدل والبحث عمّن يحققه في عالم الفتوات / الحكام.. الأمر الذي جعل الصراع الجليل يغلب عليها منذ عاشور الناجي وحتي عاشور الأخير راعي الغنم. واكتسب عاشور الناجي قوة تجعلة فتوة جباراً فهو فارع منبسط العضلات ساعده كالحجر و«ساقه جذع شجرة التوت، رأسه ضخم.. قسماته غليظة.. مترعة بماء الحياة» كما فاضت نفسه بالرحمة والرأفة مما جعله مؤهلا لتحقيق العدل للجميع.. القوي والضعيف، الغني والفقير. ولقد رهن نفسه لخدمة الفقراء، ورأي أن المال حق لهم، فالمال مال الله.. «واعتبرت نفسي خادماً مخلصاً له، أنفقه علي عباده، فلم يعد يوجد جائع ولا متعطل..». ولقد حملته الجموع إلي السطة فتوة للحارة، وأقام نظامه علي أساس العدل، ففرض الإتاوة علي الأعيان والأغنياء وانفاقها علي الفقراء، وترصد لفتوات الحارات، واكتسبت الحارة في عهده مهابة ومحبة وعدلاً. وكان كثيراً ما يدعو ربه أن يعينه علي خدمة عباده، ومن ثم ترقرقت الحرافيش بتراتيل التصوف، ولاح الموت في الرواية - أيضا- كأحد أطراف الجدل في الحياة. لقد حضر الموت في ملحمة الحرافيش - كما يري د. يحيي الرخاوي- «باعتباره البداية واليقين والتحدي..» وهو كما جاء في النص الروائي «لا يجهز علي الحياة وإلا أجهز علي نفسه». والحياة في رأي نجيب محفوظ «ليست هي المرادف الحقيقي لما هو ضد الموت. فمن الموت تتفجر الحياة، وكأن الموت هو صانع الحياة» ولعل هذا المعني العميق يتلاءم مع مقولته عن «حب الموت» كما سبق. وإذا كانت «أولاد حارتنا» تستلهم حركة الأديان، فإن قراءة نقدية جديدة لأسامة فرج.. لرواية «الحرافيش» تري أن شخصية عاشور الناجي تتماس مع شخصية «عمر بن الخطاب» وراح يستنطق في تأويل حدْسي الملامح المادية والروحية المشتركة بينهما، فهو يري أن عاشور «كأنه» عمر، واعتبر أن حرف التشبيه «كأن» هو دلالة الفن، لأنه يوحي ويشف ولا يباشر، في حين جادت شخصيات «أولاد حارتنا» تطابق الأنبياء، إنهم «هم» من حيث التطابق والمباشرة. تقول الرواية عن عاشور «كان راعي الفقراء، يتصدق عليهم.. يبتاع لمن يريد العمل السلال والمقاطف وعربات اليد حتي لم يعُد عاطل واحد في الحارة..» ويقول أسامة فرج عن عمر بن الخطاب «كان عمر أيضا يمشي في الأسواق بهيكله الضخم يكبح المتجبرين والبلطجية ويرعي الكادحين».. كما ألزم الأغنياء بالزكاة ينفقها علي الفقراء. وتناميا مع السياق الدلالي جاءت رواية «الطريق» بحثا عن المصير الإنساني وعن مسيرة الحياة وسرها، وعن الموت الذي يحكم الطريق إلي الهدف، ولقد كشف البحث عن شخصيات متنوعة، وعن دلائل إيمانية ورموز روحية تكشف عن توحد المعتقد الكامن في الإنسان والذي تحجبه مسيرة الحياة وجنوح البشر، الأمر الذي يجعل البحث عن السر الدفين وسيلة لخلاص الذات من جموح الهوي وهيمنة المادة وغرور الإنسان. يقول صابر الرحيمي «أبوك الميت يبعث في الحياة.. وأنت المفلس المطارد بالدعارة والجريمة».. وتمثلت ثنائية الصراع في صابر والتي تصنع الجدل كما يري رجاء النقاش بين الجسد والروح «فالجسد الحي المشتعل هو طريق الروح» وهي التجربة التي خاضها وأدت به إلي حبل المشنقة. كانت حياة «صابر» خلاصة تربية لأم بغي، فعاش بين المرأة والكأس وتعرف في رحلة البحث عن الأب علي «كريمة» فثمل بعبيرها الأنثوي والذي كان وراء مقتله لزوجها، كما تعرف علي «إلهام» النموذج المثالي للحب والألفة. ولقد حكم الرواية الثالوث الرمزي الذي يحتوي النص/ الحياة.. فصابر مثّل الشر الناتج عن الاضطراب الروحي فالروح القلقة تصاحب الجسد القوي، وجاءت كريمة رمزًا للجسد، في حين مثّلت إلهام رمز الحب المثالي والقلب المتصالح وبدت كأنها الوحي كما يبوح اسمها. وكأن دلالة الاسم تكشف عن دلالة المعني ومن ثم تعمق الرمز فصابر/ الصبر علي البحث، وكريمة/ الكرم الجسدي، وإلهام/ الوحي.. وها هو صابر يقع بين الجسد والروح، ويصبر علي الثنائية، ويعاود البحث، ويحمل معه تناقضاته.. لعله في النهاية يجد «الحرية والكرامة، والسلام».. فيتحقق التوازن النفسي، فالبحث عن الأب بحث عن الخلاص في وجود الله، وفي الإيمان الذي ينتشله من الظلام الذي وقع فيه.. وسيظل البحث موصولا من أجل السلام الروحي والنفسي. إن هذه الأعمال التي تسعي إلي إقامة حياة مبنية علي الحرية والعدالة والسواء النفسي، تؤكد البُعد الروحي الكامن في إبداع نجيب محفوظ والذي استطاع من خلاله أن يواجه أزمة الوجود الروحي في مسيرة الإنسان بحثا عن حل «لمشاكل الواقع والنفس والمصير».