الشعوب مثل الأفراد، فى حال الغضب تفقد مساحة من عقلها وتصبح عرضة بشكل أكبر لقبول الاستثارة أو اتخاذ قرارات ومواقف غير سليمة أو عقلانية تجاه مسلمات وقضايا كانت محسومة من قبل، وفى الآتى نناقش أمثلة لأربع مسلمات تتعلق بحياتنا ومعيشتنا وعلاقاتنا الاجتماعية جرى عليها ما جرى من المصريين فى ثورتهم، ولولا لطف الله حتى اللحظة الراهنة لوقعت كارثة الصدام الفوضوى المحتملة نتيجة للمواقف المغلوطة التى اتخذها البعض وبعد قبول هذا البعض لأكاذيب تم تمريرها تجاه هذه المسلمات. المسلَّمة الأولى وتتعلق بالجيش المصرى، والذى حدث أنه خلال الفترة الانتقالية بعد الثورة التى قاد فيها البلاد المجلس العسكرى استطاعت الدعايات المحرضة الكاذبة فى أكثرها أن توجه قطاعا كبيرا من الشباب الثائر ضد العسكر (حسب التسمية التى أطلقت على القادة العسكريين المصريين الذين كانوا يتولون الحكم) وانساق بعض الشباب الثائر فى هجومهم ضد أفراد المجلس العسكرى حتى تجاوزوهم إلى الجيش نفسه وجموع أفراده من الضباط والجنود الذين انتشروا فى بقاع مصر يحرسون المنشآت العامة والمؤسسات والممتلكات الخاصة ويقاومون مع ما تبقى من قوة الشرطة الجريمة والمجرمين حفاظًا على الأمن العام، بينما اندفع القطيع المغيب من الشعب يهاجمهم مباشرة عبر وسائل الإعلام الخاصة ومواقع التواصل الاجتماعى فى انفلات أشبه بالحمى الجماعية، بعد أن نجحت دعاية مفادها أن العسكر طامعون فى السلطة، وتطور الأمر رويدا رويدا نحو إظهار الكراهية للعسكريين يغرى على هذا ضبط النفس الذى تحلى به الطرف الآخر من الضباط والجنود تنفيذا لأوامر قياداتهم التى أصرت على تفويت الفرصة على اللاعبين من وراء الستار أولئك الذين يتركز هدفهم بالأساس على إبعاد العسكريين عن معادلة السياسة والحكم لاستكمال الهدف الأول للربيع العربى وهو ترسيخ مبدأ تداول السلطة الذى يسمح لأصحاب المؤامرة بتصعيد رجالهم والمؤمنين بأفكارهم إلى السلطة إن لم يكن اليوم فغدا. والذين هاجموا (العسكر) من الشباب ربما لهم عذرهم، لكن ما عذر الكبار وقد غاب عن أذهانهم يقين كان مترسخا فيه من قبل مفاده أن الجيش المصرى هو درع الوطن وسيفه، وأن حكم العسكر المزعوم أنتج من قبل عبد الناصر والسادات اللذين علا نجمهما فى ثورة 25 يناير، وبالتالى فإن إسقاط فترة حكم مبارك على كل السنوات التالية لثورة 52 هو من قبيل الظلم، وأهم من كل ما سبق أن جيش مصر الذى حمى الثورة ليس عدوا للثورة أو للشعب وأنه لا قدر الله لو استجاب أفراد من الجيش للاستفزازات التى وجهت لهم وردوا عليها لوقعت الكارثة المحتملة. المسلَّمة الثانية إن تاريخ مصر الحديث وبالتحديد منذ قدوم الحملة الفرنسية لغزو أراضينا وحرثها وبذر بذور العلمانية والليبرالية فيها ، منذ هذا التاريخ الأول لوميض شرارة هذه الأيديولوجية السياسية الاجتماعية ثم لمعانها الأخاذ فى عقول النخبة المتطلعة للحضارة الغربية خلال الربع الثانى من القرن العشرين يحمل لواءها حزب الوفد وبعض المفكرين أمثال لطفى السيد وحتى ظهور عبد الناصر عدو الغرب الذى يمم وجه الدولة والشعب المصرى نحو المعسكر الاشتراكى، ثم تغيير النظام لمساره مرة أخرى نحو الغرب فى عهد السادات وإطلاق الأخير للأحزاب ومحاولة إحياء الليبرالية من خلال تجربة حزب الوفد الجديد التى توقف نموها على المستوى الشعبى بفعل الديكتاتورية الداخلية للحزب وديكتاتورية النظام الحاكم وفى هذا الصدد يجب أن نشير أيضًا إلى تلك التجربة المبتسرة للجنة السياسات فى الحزب الوطنى والتى كانت موجهة بالأساس للخارج لإقناع هذا الخارج بأن فى مصر مشروع تحديث يستحق أن نحملّ عليه مشروع التوريث (فى عرض واحد) أقول إن طوال هذا التاريخ لم يدر بخلد المصريين أننا مختلفون على أساس أيديولوجى أو أن هذا الاختلاف يمكن أن يتحول إلى خلاف، يجر غضب وينتج عن الغضب عنف ينبئ بوقوع كارثة محتملة، كنا جميعا نعيش وبداخلنا يقين أن هويتنا إسلامية مصرية عربية ذات جذور فرعونية فأى شيطان جاء اليوم ووسوس إلينا أن نتقاتل على هويات مصطنعة لا يمكن أبدا أن تكون بديلا لهويتنا الحقيقية.. من عساه أن يكون هذا الشيطان؟! المسلَّمة الثالثة وتتعلق مباشرة بالثورة والثوار.. ثورة يناير التى استهدفت إسقاط مبارك الشخص والرمز والنظام، واتفقنا عن قناعة جميعًا أن لا صلاح ولا مستقبل لهذا الوطن إلا إذا اجتمعنا على محاربة الفساد والمفسدين، واتفق الثوار أن نجاح الثورة واستمرارها حتى تحقيق أهدافها لن يتحقق إلا من خلال الإصرار على عدم إنتاج النظام القديم بأى شكل أو صيغة كان.. هذا ما استقر فى النفوس والعقول، وتم ترجمته على أرض الواقع فى رفض فلول وذيول النظام السابق، بينما كان الأخيرون يقاومون عملية التطهير البطيئة أو المحتملة بعد استقرار الأوضاع باستماتة للحفاظ على ما تبقى من مصالحهم وإجهاض أى محاولة للحكومات ونظام الحكم الذى جاء بعد الثورة للدفع بهم إلى آتون المحاسبة على جرائمهم السابقة فى حق الشعب، وأمام أعين الجميع جرى ما جرى من الحوادث التى تنبئ أن الفلول والذيول سوف تتوحش إن لم تقطع من الجذور. كنا جميعًا على هذه القناعة حتى استعر الصراع على السلطة وانقسم الثوار ليسفر مشهد الانقسام عن إطلالة لرءوس فاجرة حاربت من قبل الثوار والثورة، ثم جاءت اليوم لتجلس على المنصات كتفها بكتف ثوار الأمس وغرماء السلطة وأدعياء اليوم المجتمعون على محاربة خصم سياسى تحت شعار إنقاذ الوطن وهو بالفعل يحتاج إلى إنقاذ من فتاوى: سامحوهم فقد سامح النبى y فلول الكفار وكلام من هذا القبيل لا تملك حين تسمعه إلا أن ترد غير متجاوز لحدود الأدب: ما هذه الخفة والاستخفاف؟!.. نعم هى خفة واستخفاف بالحق وتمويه متعمد للمساحات الفاصلة بين الثوار والفلول إلى الدرجة التى صار فيها حسين عبد الغنى أحد الوجوه اللامعة فى جبهة إنقاذ مصر!! (هل تعرف حسين عبد الغنى مدير مكتب الجزيرة السابق وموقعه من الحزب الوطنى ومشروع التوريث؟.. إذا لم تكن تعرف فاسأل رواد الفيس بوك عن إفيه رد أنت عليه يا حسين)! المسلَّمة الرابعة وتتعلق بنا نحن الصحفيين وبالتحديد صحفيو الصحف القومية، وكنا نظن وليس كل الظن إثم أننا نعمل فى صحافة الدولة.. القومية، كنا نظن ونحن صغار أبرياء أننا مهنيون شرفاء، كان هذا قبل أن يتشدق الجميع بمصطلحات المهنية والموضوعية والشفافية ويستوى فى ذلك الواهم والموهوم. ولم يسأل أبرياء الصحافة القومية أنفسهم قبل الثورة إن كانوا ينافقون نظامًا فاسدًا أو يهادنونه انطلاقًا من أنهم بالفعل لم يرتكبوا هذا الإثم وليس معنى هذا أن هذه الجريمة لم تكن تقع، نعم.. كانت تقع ولكنها كانت حكرًا على الكبار الذين اختارهم النظام وتحرت ضمائرهم مباحث أمن الدولة وتأكدت أنهم ليسوا «إخوان» أولًا، وليسوا مشاغبين ثانيًا، ومن الموالين للنظام ثالثًا، ويمكنك أن تعيد ترتيب الشروط السابقة حسبما تريد، وكان الواحد من هؤلاء الكبار عندما يجلس على مقعده الوثير ويداعب ناظريه ذهب السلطة ويملأ فمه عسل السلطان فلا تنتظر منه أن يهاجم نظامًا اختاره وفضله على الآخرين. كنا نحن الذين لم نتبوأ المناصب الكبرى ولم ننضم للحزب الحاكم ولجانه ولم نعتمد سياساته واخترنا هذا من منطلق المبادئ وليس العجز لدينا مسلمة أن الدولة المصرية لا بد أن يكون لها صحافتها التى تدافع عن أمنها القومى وسلامها الاجتماعى وتماسك جبهتها الداخلية وقناعات أخرى كثيرة تحسب لنا وليس علينا، لم نكن شياطين ولم يكن صحفيو الصحف الخاصة «المهنيون» ملائكة حين تصوروا أن وظيفة الصحافة فقط هى المعارضة، ثم المعارضة والمعارضة حتى الموت.. أو حتى تتحول المعارضة إلى مهنة للتكسب والنجومية وادعاء البطولات الزائفة.. فى كلا الجانبين كان هناك كهنة للمعبد يملكون الأسرار ويحصلون على القرابين ويخرجون فى أعياد التجليس ليهللوا للسلطان فى عيد ميلاده إذا كانوا صحفيين قوميين أو يقلبوا الحق باطلًا لصالح توجهات أصحاب الصحيفة من رجال الأعمال المنتفعين الذين يبيتون ليلًا فى حضن النظام.. هذه هى الصورة على الإجمال فلا داعى لأن يعاير أحدنا الآخر الآن بالمهنية والموضوعية والكلام للكبار أما الصغار فأنصحهم أن يبقوا على عقيدتهم أن الدولة لا بد أن يكون لها صحافة تدافع عن مصالحها العليا.. حتى ولو تصادمت هذه المصالح مع رؤى وتوجهات النظام الحاكم.. فالأنظمة تزول وتبقى الدولة.