أجواء ثورية ملتهبة عشناها قرابة العامين ويعلم الله وحده إلى متى سوف نحياها. ورغم أن هذه الأجواء كانت أملا ظل يراودنا عقودا ثلاثة حتى أصابنا اليأس من تحقيق الخلاص ليأتى شباب مصر الرائع والذى طالما وصفناه بأقذع الأوصاف كان أقلها أنه شباب يفتقد القدرة على تحمل المسئولية ومن قبلها أن يحمل راية مصر بعد أن يسترد الله ودائعه من أجيالنا التى فقدت هى الأخرى قدرتها على تحقيق تحول إيجابى ينتهى معه عصر القمع والاستبداد.. وأراد الله سبحانه وتعالى أن يخيِّب ظنوننا فى هذا الشباب الواعد الذى ظلمناه كثيراً ليحقق عن جدارة واستحقاق ما عجزنا نحن عن تحقيقه.. وكانت ثورتنا المباركة التى تجلت خلالها قيم مصر العظيمة حتى أصبحت بذلك نموذجا ثوريا - مثاليا تتطلع إليه الدول الكبرى والعريقة ولمحاكاته فيما تأمله من ثورات.. وقد تبدى ذلك واضحا حين قارن العالم ثورة مصر بسائر ثورات الربيع العربى والتى مازال بعضها تستعر جذوتها منتهكة أنظمتها الفاسدة كل حقوق شعوبها ولنا المثل الحى فى الثورة السورية على النظام السورى الفاشى والذى لم يزل يصرع كل طوائف وأطياف الشعب السورى بشبابه وشيوخه ونسائه وأطفاله دون تمييز فى مشهد مأساوى هو الأسوأ فى مشاهد ثورات الربيع العربى فى تونس ومصر وليبيا واليمن وحتى فيما يستجد من ثورات حيث فاق البطش للنظام السورى كل تصور يمكن حدوثه فى أية ثورات قادمة.. ??? ورغم أن المشهد السياسى المصرى فى الشهور الأخيرة وبالتحديد منذ انتهاء الانتخابات الرئاسية التى شهد العالم أجمع بنزاهتها والتى أتت بالرئيس محمد مرسى ليضطلع بدوره المأمول فى قيادة الأمة المصرية.. ورغم كل الأحداث المحبطة فى هذا المشهد حيث اختلطت كل معايير القيم المصرية بما فى ذلك الموروث الحضارى الضارب بجذوره عبر آلاف السنين.. رغم ذلك كله فإن البشائر المتوقعة تأخذنا نحو ما نصبوا إليه من استقرار منشود خاصة بعد الخطوة المهمة وهى صياغة دستورنا الدائم على يد لجنة متخصصة يميزها الإخلاص والانتماء والتى ترأسها المستشار الجليل حسام الغريانى بما يحمله الرجل من سجل حافل عبر تاريخه القضائى المشهود كرئيس لمحكمة النقض وهى أعلى مراتب القضاء المصرى وما حملته سطور هذا السجل من أمجاد قضائية تشهد له بالتزامه الأوحد بتحقيق العدالة فى مواجهة ظلم الطغاة من نظام الحكم السابق.. وحين اختتمت هذه اللجنة الموقرة صياغة الدستور وقامت بتسليمه إلى رئيس الجمهورية الذى اتخذ بدوره طرح الدستور إلى الاستفتاء الشعبى العام محددا يوم الخامس عشر من ديسمبر الجارى تمهيدا لإقراره والعمل به ومحققا بذلك الاستقرار المرتقب حتى يتفرغ الجميع للعمل الدؤوب لنهضة مصر ورفعتها.. ??? ورغم ذلك كله فلا أنكر أنه قد ساورنى قلق بالغ من توالى التوابع المضادة على الساحة السياسية المصرية من كل القوى السياسية المعارضة والتى اتضح بما لا يدع مجالا لأى شك أن جميع هذه القوى وضعت فى أولوياتها مكاسبها السياسية وتصفية حساباتها مع من أتت به صناديق الانتخاب الحر المباشر وتناست فى سبيل ذلك المصلحة العليا لمصر فى هذه الظروف الفارقة التى تمر بها وكذلك حاجة هذا الشعب الصابر فى أن يستريح بعد طول معاناة عبر ثلاثين عاما والتى تضاعفت فى العامين الأخيرين نظراً لما جرى من أحداث تحول ثورى اكتنف الشارع السياسى المصرى.. وما تخلله من فوضى كادت تلقى بثورتنا العظيمة وبأهدافها السامية إلى مجهول لا يعلم عواقبه سوى الله سبحانه وتعالى.. وأكثر ما كنت أخشاه ما كان يحدث فى نادى القضاة من اجتماعات ودعوات لجمعيات عمومية طارئة تسودها العصبية والانفعال وكلاهما يبتعد بهذه الفئة الموقرة والتى تمتلك ميزان العدل بالبلاد عن جادة الصواب وكذلك تأخذها بعيدا عما هو منتظر منهم من موضوعية وحيادية.. ??? وفى غمرة هذا القلق البالغ تأتى المبادرة الحكيمة من قضاة المجلس الأعلى للقضاء وقضاة مجلس الدولة باستعدادهما الكامل للاضطلاع بدورهما الواجب فى الإشراف القضائى الكامل على الاستفتاء العام لمواد دستورنا القادم ومما أكد الجدية والإصرار على هذا الإجراء الإيجابى أن هذه المبادرة جاءت بإجماع الآراء فى كلا المجلسين.. وإذا كانت هناك بعض الأصوات القليلة لم تزل تطالب بعرقلة هذه الخطوة التاريخية لقضاة مصر الأجلاّء وخاصة من القائمين على إدارة نادى القضاة وهى جهة خدمية فى المقام الأول ولها حساباتها الخاصة والتى تنطلق من انتماءاتها للنظام السابق وقد اتضح ذلك جليا من ممارساتها التى تجاوزت كل حدود اللياقة وما يجب عليهم من احترام لرموز الدولة والتوقير المفترض والمتبادل بين سائر سلطات الدولة وخاصة السلطة التنفيذية التى تتصدرها القيادة السياسية ممثلة فى السيد رئيس الجمهورية وما يتلوه من معاونيه فى مؤسسة الرئاسة.. وقبل ذلك كله وهم يعرفون ذلك ويدركونه كأهل للتخصص القضائى أن قرارات رئيس الجمهورية لا تراجع مادام اتخذها فى إطار من صحيح القانون ومنها على سبيل المثال تعيين النائب العام الجديد وإقالة النائب العام السابق وغير ذلك من قرارات تصب جميعا فى مصلحة الدولة وترسيخ استقرارها.. ??? وإذا كانت القلة الرافضة من أصحاب الصوت العالى والمتمثلة فى القوى السياسية التى تبحث لها عن دور فقدت صلاحياتها السياسية - إن صح التعبير - بعد أن افتضح أمرها أمام الشعب المصرى الذى لفظها عبر صندوق الانتخابات البرلمانية والرئاسية بعد الثورة تعتمد فى الترويج لادعاءاتها الباطلة من خلال إعلام فاسد يعتمد على أسلوب تحريضى فج يموله أصحاب القنوات الفضائية المشبوهة من فلول النظام البائد وذلك لتحقيق أغراضهم المريضة. والدليل الذى يؤكد ذلك هو انتقاؤهم لضيوف برامجهم المرفوضة من أصحاب الأهواء المدنسة والأغراض الخبيثة والفاقدين لكل رؤية موضوعية ولا نستثنى تغطياتهم الإخبارية التى تفتقر إلى كل عوامل الإقناع والمصداقية.. حتى بدا لكل مشاهدى قنواتهم مدى الإفك والبهتان اللذين يغلفان أداءهم الإعلامى المشبوه.. والنتيجة المحتومة حيال كل هذا الإعلام التحريضى والمضلل هو رفض الجماهير لهم ووضعهم فى مكانهم الواجب وهو سلة المهملات و«مزبلة» التاريخ.. إن ما تشهده الساحة السياسية المصرية فى هذه اللحظات الدقيقة التى تمر بها مصر هى شهادة بحق أن الشعب المصرى قد بلغ سن الرشد وأصبحت لديه القدرة الكاملة على تقرير مصيره وحُسن تقييمه لكل من الغث والسمين وأثبت عن جدارة أنه شعب صاحب حضارة عمرها آلاف السنين.