ربما بحكم أننى أنتمى لهؤلاء الذين يرون نصف كوب الماء الممتلئ وليس نصفه الفارغ.. ولأننى بالقطع أثق فى طبيعة الشعب المصرى البعيدة عن العنف.. أتصور أن الأمور- بشكل أو بآخر- ستنتهى على خير ولن يقع الصدام الذى يخاف منه الكثيرون بين التيار الإسلامى والتيار الليبرالى.. أكتب هذه الكلمات صباح يوم الخميس الموافق 29 نوفمبر.. قبل ساعات قليلة من الخطاب الذى سيلقيه رئيس الجمهورية الدكتور محمد مرسى.. وقبل 48 ساعة من الاشتباك الافتراضى للمليونيتين- إن صح التعبير- مليونية القوى السياسية الليبرالية ومليونية التيار الإسلامى.. ومن ثم فإنه من المستحيل التنبؤ بمجريات الأحداث.. لكننى كما ذكرت أميل للتفاؤل والرهان على طبيعة الشعب المصرى.. وليس معنى ذلك أننا بعيدون عن الخطر! والخطر الذى أعنيه وأتحدث عنه ليس فقط هو تلك الأزمات الطاحنة التى يمكن أن تقود البلاد إلى الخراب.. لكنه أيضا التهوين من هذه الأزمات وتجاهلها.. فمثل هذا التهوين ومثل هذا التجاهل يؤديان إلى تشخيص خاطئ.. ومن ثم فلا يصح العلاج ولا ينفع! من هذه الأزمات أزمة القضاة أو الأزمة بين الرئاسة والقضاة. ليس خافيا أن سبب هذه الأزمة هو حكم المحكمة الدستورية ببطلان مجلس الشعب.. وليس سراً أن العداء بين الرئاسة والقضاة قد زادت حدته بعد أن أصدر الرئيس محمد مرسى قرارا بإعادة مجلس الشعب ثم اضطر للتراجع عنه.. وبعد أن أصدر قراراً باستبعاد النائب العام وتعيينه سفيرا لمصر فى الفاتيكان ثم اضطر أيضا للتراجع عنه.. لكن الحقيقة أن العداء بين الرئاسة والقضاة وصل إلى مرحلة غير مسبوقة بعد الإعلان الدستورى.. كلنا يعرف التداعيات من أول اجتماع نادى القضاة إلى قرارات الجمعيات العمومية لقضاة المحاكم بتعليق العمل بالمحاكم. المشكلة هى محاولات التهوين من حجم هذه الأزمة الطاحنة وغير المسبوقة ومن تأثيراتها وتداعياتها.. المحاولات بدأت بالإيحاء بأن القضاة منقسمون- عدديا- على أنفسهم.. نصفهم ضد الإعلان الدستورى ويعتبرونه اعتداءً من السلطة التنفيذية على السلطة القضائية.. ونصفهم يؤيدون الإعلان الدستورى ولا يرون فيه اعتداء من السلطة التنفيذية على السلطة القضائية. وفى هذا الإطار سمعنا عن تصريحات جماعة «قضاة من أجل مصر» باعتبارها «نصف» قضاة مصر المؤيدين للإعلان الدستورى.. وسمعنا تصريحات تؤكد توافق المجلس الأعلى للقضاء مع الإعلان الدستورى.. ثم تبين أن كل هذا بعيد عن الدقة والصواب.. وأن حوالى 99% من قضاة مصر علقوا العمل بالمحاكم احتجاجا على الإعلان الدستورى.. وهو ما يعنى أن هناك أزمة حقيقية وحادة بين مؤسسة الرئاسة والقضاء.. أزمة لم يعد فى الإمكان تجاهلها أو التهوين منها. هل تحتمل مصر مثل هذه الأزمة؟.. هل يمكن أن تستقيم الأمور فى ظل هذه الأزمة؟. هل يمكن أن تستمر هذه الأزمة؟! وليست أزمة القضاة بالطبع هى الأزمة الوحيدة! *** تفجرت أزمة حادة بين التيار المدنى أو الليبرالى وبين التيار الإسلامى فى أعقاب الإعلان الدستورى. لابد من الاعتراف بأنه كانت هناك مقدمات لهذه الأزمة سبقت الإعلان الدستورى.. وكان ذلك واضحا من خلال تصريحات رموز التيار المدنى التى تدور حول معنى واحد: محاولة التيار الإسلامى انتهاك مدنية الدولة ومحاولة الإخوان تحديدا الانفراد بالسلطة وإقصاء الآخرين. الإعلان الدستورى فى الحقيقة كان الميدان الذى اختاره الفريقان لإعلان الحرب بينهما! المشكلة الأكبر أن كل فريق يستهين بالآخر.. أو يحاول الاستهانة به! التيار الإسلامى يقول إن المعترضين على الإعلان الدستورى لا يمثلون إلا نسبة ضئيلة من الشعب وأن 90% من المصريين يؤيدون الإعلان الدستورى.. والتيار المدنى يؤكد أن الإسلاميين أصحبوا قلة.. فقدت تعاطف الرأى العام.. ومن ثم فإن قدرتهم على الحشد قد تآكلت لدرجة أنهم أصبحوا عاجزين عن الحشد لمليونية! وتسمع من الفريقين تصريحات تدخل فى نطاق اللامعقول! وكل ذلك بعيد عن الدقة والصحة!.. فليس معقولا أن المليونيات التى نظمها التيار المدنى مؤخرا والمسيرات التى انطلقت فى شوارع القاهرة وباقى المدن المصرية.. أنها تمثل 10% فقط من الشعب المصرى.. تماما كما أنه ليس معقولا أن الإسلاميين أصبحوا غير قادرين على الحشد وتنظيم المليونيات! الصحيح والدقيق أننا أمام رأى عام منقسم.. نصفه- تقريبا- يؤيد الإعلان الدستورى.. ونصفه تقريبا- يعارض الإعلان الدستورى. الصحيح والدقيق أننا أمام مجتمع نصفه تقريبا- يعارض نصفه!.. وليس فى ذلك عيب.. العيب أن يتصور كل فريق أنه قادر على الاستحواذ وتجاهل وجود الفريق الآخر.. العيب أن يتصور كل فريق أنه قادر على «الانتصار» على الفريق الآخر! فى هذا الإطار يتعين على الرئيس حتى لو كان ينتمى لأحد الفريقين.. أن ينحاز للفريق الآخر بنفس الدرجة التى ينحاز بها لفريقه.. ليس هناك حل آخر! وليس هناك نتيجة من استمرار هذه الأزمة وغيرها من الأزمات إلا.. الخراب! *** يواجه الاقتصاد المصرى خطرا حقيقيا يهدد بوقوع ثورة جياع.. لن تكون سلمية بأى حال من الأحوال! الحقيقة أن مظاهر الخطر كثيرة ومتنوعة منها الخسائر الفادحة التى تتعرض لها البورصة المصرية ومنها الأسعار التى ترتفع كل يوم.. ومنها طوابير العاطلين التى تملأ شوارع القاهرة وميادينها. أضف إلى ذلك الأزمة الطاحنة التى يواجهها قطاع السياحة فى مصر والذى خرج تقريبا من معادلة الدخل القومى!.. ثم هذه الاحتجاجات الفئوية التى تراجع معها معدل الإنتاج إلى درجة مخيفة ومرعبة.. هل هناك طريق آخر للخراب؟! *** ماذا يفيد التيار الليبرالى إذا انتصر وفرض إرادته وكان الثمن هو الفوضى؟.. وماذا يفيد التيار الإسلامى إذا انتصر وكان الثمن هو بحور الدم؟! أحيانا يكون المكسب خسارة.. والخسارة مكسب.. يا أولى الألباب!