نحن نعيش معجنة سياسية حقيقية.. اختلط الحابل بالنابل.. وسقطت جميع الأقنعة.. وانقشع الغبار عن مواقف عجيبة غريبة.. فالعسكر متعقلون متريثون!! والقضاة مهتاجون يصرخون ويتوعدون وينحازون لفريق سياسي ضد آخر!! والقوى السياسية والرموز الليبرالية التي صدعت رؤوس الناس وتشدقت طويلا بمدنية الدولة إذا بها تنحاز للإستبداد العسكري وهيمنة القوات المسلحة على الحياة المدنية والتشريع والدستور!! وشباب الثورة الذين قاتلوا وناضلوا حكم العسكر على مدى عام ونصف وانشقت حناجرهم وهم يهتفون ضد حكم العسكر.. هم الآن لا حس ولا خبر!! يبدو لي أن المجلس العسكري كان قانعا بالحصول على امتيازاته التي تمتع بها خلال حكم مبارك ولم يكن يمانع أن يكون ذلك وديا وعرفا دون نصوص دستورية، ولكن انقسام القوى السياسية والصراع العنيف بين العلمانيين والإسلاميين جعله يطمع فيما هو أكثر من ذلك. ولا أشك لحظة أن أحزابا علمانية (ثمانية أحزاب معروفة بالاسم) ونخبا سياسية عقدت صفقة مع المجلس العسكري قبل جولة إعادة الانتخابات الرئاسية خلاصتها أن يتم حل مجلس الشعب على وجه السرعة ويتم إصدار إعلان دستوري مكمل يجعل وضع الدستور تحت هيمنة الجيش والنخب العلمانية مع استلاب صلاحية الرئيس المتوقع.. والمقابل الذي يطلبه الجيش معروف ولا يحتاج لبيان. المجلس العسكري متعقل ومتريث لأنه واثق من العداء الشديد الذي يضمره القضاة للرئيس وللتيار السياسي الإسلامي.. فيريد ترك الأمر بيد القضاء بدلا من مواجهة تصادمية مع قطاع عريض من الشعب المصري قد تؤدي إلى حرب أهلية.. كما أنه واثق من العداء الشديد الذي يبديه الإعلام والقوى العلمانية والنخب السياسية للإسلاميين ولرئيس الجمهورية.. فما عليه إلا أن يجلس مطمئنا إلى أحكام القضاء التي ستؤكد حل البرلمان وتلغي قرار رئيس الجمهورية.. وترفض الطعن على الإعلان الدستوري المكمل.. وسيهلل الإعلام لتلك الأحكام.. وستقيم القوى الليبرالية والمدنية الأفراح والليالي الملاح لسيطرة القوات المسلحة على الحياة السياسية المصرية وعلى دستور البلاد في مشهد غاية في الغرابة والعبثية. الصراع الحقيقي ينحصر بين القوى العلمانية والإسلامية.. وهذا صراع حول شيء واحد هو الدستور.. أما المجلس العسكري وفلول النظام السابق والهيئات القضائية والقنوات الفضائية فهي مجرد أدوات لهذا الصراع يستخدمها هذا الطرف أو ذاك نظير مكاسب معينة أو للحفاظ على مكاسب معينة أو لمجرد الإفلات من المسائلة.. والمأساة أن الخلاف على مواد الدستور لا تستحق مطلقا هذا الصراع الرهيب.. فالدساتير ليست خالدة ولا مقدسة.. الدساتير يتم تعديلها واستبدالها بدساتير جديدة من حين لآخر.. الشيء الوحيد الذي يجب أن نقاتل من أجله ونموت في سبيله هو وضع السلطة الحقيقية في يد الشعب وحده عن طريق ضمان نزاهة جميع الانتخابات وعدم وجود أي وصاية من أي جهة عسكرية أو غير عسكرية على إرادة الشعب.. كل ما عدا ذلك أمره هين وخطبه يسير. فالشعب هو مصدر جميع السلطات وهو الذي يصدر الدساتير والقوانين وهو الذي يملك القوات المسلحة والهيئات القضائية فلا يعقل بحال من الأحوال أن تتحول هذه الأشياء إلى سيف مصلت على رقاب الشعب. فكان على الإسلاميين والعلمانيين أن يقنعوا من الدستور بهذا المكسب الجوهري وما عدا ذلك يؤجل إلى مراحل لاحقة تكون الأمور قد هدأت وتكون آليات تداول السلطة قد ترسخت وتكون القوات المسلحة قد عادت إلى مهمتها الوحيدة وهي الدفاع عن الحدود. قيل أن الإسلاميين كانوا متفاهمين مع المجلس العسكري في بداية المرحلة الإنتقالية.. قد يصح هذا أو لا يصح.. وحتى لو كان صحيحا فيحمد للإسلاميين نقض هذا التفاهم بمجرد ظهور وثيقة السلمي التي لا تعطي للمجلس العسكري عُشر معشار ما يعطية له الإعلان الدستور المكمل الذي صدر بالتفاهم مع القوى المدنية والليبرالية!! لذلك فكل القوى وكل النخب التي زعمت زمانا طويلا أنها مدنية وليبرالية وديمقراطية أو شعبية ستذهب جميعها إلى مزبلة التاريخ إن عاجلا أو آجلا.. وسيلعنهم الشعب ويلعنهم التاريخ أبد الدهر.. وهذا التناقض بين موقف الإسلاميين والعلمانيين تجاه تسلط القوات المسلحة على الحياة السياسية يثبت أن الإسلاميين رغم أخطائهم قوم حريصون على مدنية الدولة وعلى سلطة الشعب ويرفضون أي تنازل في حق هذا الشعب مهما كانت المخاطر التي يتعرضون لها ومهما كانت المغريات أيضا. في هذه اللحظات الحرجة تنحدر مصر بسرعة نحو حرب أهلية أراها حتمية ولن نفلت منها إلا بمعجزة من السماء.. وسبب هذا التشائم هو تسييس القضاء.. لو كان القضاء غير مسيس وغير منحاز لطرف سياسي ضد آخر لأمكن تجنب الحرب الأهلية.. أما المعجزة فهي أن يدرك المجلس العسكري هول الحرب الأهلية والخراب الذي ستجره على البلاد فينزع فتيل الأزمة بالتخلي عن الإعلان الدستوري المكمل ونفض يديه من المستنقع السياسي وترك الشعب يقرر مصيره.. فهذا شعب قد بلغ الرشد ولا يحتاج ولا يقبل وصاية من أحد كائنا من كان.. وسيقاتل في سبيل الحرية وحق تقرير المصير. ليست مشكلة الإسلاميين حل أو عدم حل البرلمان.. مشكلة الإسلاميين وجماهير الشعب التي انتخبتهم هو هيمنة القوات المسلحة على وضع الدستور وعلى الحياة السياسية والسلطة التشريعية.. والمعجزة الثانية أن تأتي أحكام القضاء غدا بإلغاء قرار الرئيس الخاص بعودة مجلس الشعب وإلغاء الإعلان الدستوري المكمل على أن يكون من حق رئيس الجمهورية إصدار قرارات بقوانين عند الضرورة كما في دستور 71 وكما في السوابق الدستورية.. لو فعل القضاء ذلك بخصوص القضايا المرفوعة ضد القرارالجمهوري وبخصوص القضايا المرفوعة ضد الإعلان المكمل لكان قضاءا نزيها بحق ولاستحق إحترام وتبجيل الشعب.. ولا أظنه يفعل ذلك.. ولو فعلوه لكان خيرا لهم.. {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} .. صدق الله العظيم. د. أيمن محمد صبري بتاريخ:10/7/2012