لا تسألنى كيف وصلت هذه الرسالة دون غيرها إلى يدى من بين القضبان وسط كراريس وكتب واقلام وسندوتشات الحلاوة الطحينية والبطاطس المحمرة وتليفون محمول ماركة قديمة اشتراه الأب لابنه بخمسين جنيهاً.. لكى يطمئن عليه أولا بأول فى رحلة كل يوم إلى المدرسة والعودة منها.. الرسالة التى تم العثور عليها مخضبة بالدماء البريئة قد يكون اسلوبها وبيانها وخطها اكبر من عمر الطفل الذى لا يزيد على 10سنوات ولم نعثر على اسمه فى تلك الورقة التى وجدناها بين قضبان السكة الحديد فى المكان الذى اختلط منه الحديد باللحم بالعظام بالإهمال بالحسرة بالدموع وبقايا الاتوبيس الشهير بين انياب القطار الأهوج وفى حفرة المزلقان التعيس على مقربة من ذلك الكوخ المظلم وبقايا نيران فى قصعة فوق علبة مربى من الصفيح لها رقبة من السلك الملفوف عليها تمتد بعض الشىء لتكون يدا ومقبضاً يمسك بها عمك فلان عامل المزلقان الذى لا تدرى يمينه ماذا يتم عن يساره.. ولا تميز أذنه المريضة جرس اقتراب القطار من ابتعاده فهو يشبه الإنسان الآلى يحمل على كاهله عياله السبعة وأمهم ووالدته العجوز وأخته المطلقة بعيالها الأربعة فى الغرفة التى يتكوم فيها كل هذا الحشد يحملون بطاقات الموتى وهم إحياء عند ربهم يرزقون. (نص الرسالة) إلى كل من يسكن هذا الوطن ويهمه أمره إلى الحاكم .. وإلى المحكوم إلى الماضى القريب الذى ننكره وإلى الحاضر الحائر الذى نسعى للسيطرة عليه كل حسب توجهه وهواه ومآربه وإلى المستقبل الغامض الذى لا ندرى كيف نبلغه ونحن نربط ايدينا وعقولنا بقيود من تضاريع تكبلنا وتشل حركتنا عن بلوغ نقطة الالتقاء واستكشاف الأهداف الكبرى والآمال العظيمة. نعم أنا الطفل الصغير تلميذ المعهد الأزهرى الذى يحفظ الكثير من آيات القرآن الكريم وأسماء لاعبى النادى الأهلى .. قبل أن اركب اتوبيس الرحلة الأخيرة مع حمزة وأحمد ومحمود وفاطمة وكوثر وسلسبيل ويوسف وقبل أن نضحك ضحكتنا الأخيرة بالقرب من المزلقان كنت أستشعر أن هناك من يملى علىَّ هذه الكلمات بل أن أغلبها تم تسجيلها شفهياً فى رأسى كأنها درس النصوص التى يتم فيها امتحانى آخر السنة ولكنكم سوف تجدونها بين هذه الأسطر وتحت بقع الدم والشخابيط. أكتب أولا إلى القطار أتعرف كم كنت أحبك وفى كل صباح مضى انظر اليك وأنت تجرى فوق قضبانك تحمل الناس إلى مقاصدهم. وأود أن أكون معك اسافر واشاهد .. كنت احلم برؤية أهرامات الجيزة وأبى الهول وقد سمعت فى نشرة الأخبار مع ابى قبل رحلتنا الأخيرة بساعات..كيف ان شيخاً يطالب بهدمها..وذهبت إلى كتاب التاريخ انظر إلى صورة أبى الهول واكلمه وأقول له اطمئن لن تموت ولن تُهدم..ورأيته يضحك لى مبتسماً ربما اسعده كلامى..وربما كان يقول إنه فى انتظارى!! ق..قطار هكذا كنت أتعلم القراءة والكتابه وأنا فى الحضانة.. ولكنى لم أعرف أن القطار سوف يكون قاتلى وقد غنيت له:ياوابور قولى رايح على فين؟.. وكثيراً ماكنت أنظر اليه بفرح.. ولكنى فى اللحظات الأخيرة نظرت اليه بخوف..م..موت .. ف .. فزع .. ص .. صراخ .. القطار أصبح فى لحظة مثل عفاريت الحواديت التى كانت تحكيها جدتى..له أنياب وأظافر طويلة وفم واسع اقترب واقترب ..حتى ابتلعنا .. وسمعت صوت العظام يطحنها بين اسنانه الحادة. أكتب ثانياً إلى عم فلان عامل المزلقان : لا أعرف اسمه ولكنى كنت أراه يسحب الجنزير قبل أن يأتى القطار..ويقوم من الكوخ بطيئاً..فى عينه دائماً بقايا نوم حتى فى عز الظهر..كنا نلقى اليه احياناً ببقايا سندوتشات لم نأكلها..لأننا يومها..اشترينا البطاطس المحمرة وبسكويت الشيكولاته مثل عيال التلفزيون .. غلبان جداً عم فلان..كان الولد الفقرى حسن أبو شمروخ..يظن أن عمنا هذا هو صاحب القطار وأنه يأخذ من كل سيارة تمر على القطبان ربع جنيه.. ويأخذ من القطار نفسه 50قرشاً حتى يسمح له بالمرور..عبيط حسن..لا يعرف أن القطار بتاع الحكومة ..والحكومة تشتريه بفلوس الناس لخدمة الناس..واحيانا لكى تتخلص من الناس! فى حصة الرسم.. فى الشهر الماضى عندما طلب منى الأستاذ عزوز أن أرسم موضوعاً من دماغى رسمت شريط القطار..وحاولت أن ارسم عم فلان عامل المزلقان ولم استطع رسمت دائرة كبيرة منها على اليمين من أعلى نقطة صغيرة .وعلى الشمال مثلها انها العينان اما الأنف فهى حرف لام.. والفم شرطة كبيرة تحتها واحدة أصغر وفوقها خط عريض اسود هو الشنب ورسمت على القضبان..كف يد..مقطوعة..سألنى الأستاذ ما هذا ..؟..قلت له يد صاحبها داسه القطار فى حادثة على المزلقان مازلت أذكرها ..أما باقى جسم القتيل فقد طار بعيداً..وسمعتهم وقتها يقولون إن هذا الرجل الذى مات هو ابن خالة عم فلان عامل المزلقان.. مسكين هذا الغلبان.. أكتب ثالثاً إلى زميلى مصطفى: هل تذكر يوم سألت الأستاذ غندور عن الموت؟.. فضحك وقال لك. هو انت عشت ايه؟..لما تسأل على الموت ومستعجل على إيه؟ يومها سألته عن الجنة وما فيها من انهار فيها لبن وعسل وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون.. فضحك الأستاذ مرة أخرى وقال:ربنا يوعدنا بيها..وعلى فكرة ياعيال لوحد فيكم مات وهو صغير طاهر وبرىء هيروح على الجنة بغير حساب.. مصطفى عندما ادخل الجنة سوف ابحث عنك ربما أجدك معى..فعندما جاء القطار وأكل الأتوبيس ونحن بداخله لم أشعر بشىء.. لكنى أسمع بكاء أمى..وأرى دموع ابى وهو نادراً مايبكى وهو يقول بصوت مشروخ وحزين: إنا لله وإنا إليه راجعون لذلك اقول لأبى ما حفظته من القرآن الكريم من سورة فاطر: وقالوا الحمد لله الذى أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور . الذى أحلنا داء المقامة من فضله لايمسنا فيها نصب ولايمسنا فيها لغوب. أكتب رابعاً إلى زملائى فى الأتوبيس : أنا فرحان جداً أغلبكم هنا معى.. عدد قليل فقط لم يحضروا معكم..هذا هو السائق اين الاتوبيس؟! شكراً للقطار لأنه جاء بكل هؤلاء إلى الجنة.. لا تبكى يا أمى لست وحدى متى يحضر باقى زملاء المدرسة؟!ربما يحضرون بطريقة أخرى بعيداً عن القطار ؟! فقد تعددت الأسباب ..والموت واحد!!