هذه الولادة المتعثرة للدستور الجديد بعد انسحاب ثلث أعضاء الجمعية التأسيسية تعنى فى واقع الأمر أن المسودة النهائية التى تتمسك الأغلبية العددية داخل الجمعية بفرضها.. لا ولن تحظى بالتوافق السياسى الوطنى العام حتى إن حظيت بالموافقة فى الاستفتاء الشعبى، باعتبار أن هذا الدستور سيكون مولودا «مبتسراً».. لن يبقى طويلاً، إذ لن يكون معبراً عن إرادة الأمة بكل أطيافها بقدر تعبيره فقط عن تيار سياسى بعينه. إن فشل الجمعية التأسيسية فى التوافق على مشروع الدستور بحكم تشكيلها غير المتكافئ بأغلبية تنتمى إلى تيار الإسلام السياسى.. استناداً على نسب التمثيل الحزبى فى البرلمان المنحل وعلى النحو الذى تمت معه صياغة مشروع الدستور بالمغالبة فى تجاهل تام لضرورة وأهمية التوافق.. إن فشل الجمعية التأسيسية فى التوافق على مشروع الدستور سوف يدخل مصر بكل تأكيد فى دوامة سياسية مفزعة وفى نفق سياسى مظلم من غير الممكن لأحد أن يتوقع كيف يمكن الخروج منه وتجاوز الأزمة. ??? إن هذه الأزمة الدستورية تؤكد خطأ ما جرى طوال المرحلة الانتقالية بعد سقوط النظام السابق من ترتيب خطوات نقل السلطة من المجلس العسكرى إلى سلطة مدنية، لقد أخطأ المجلس وأخطأت القوى السياسية حين لم تستجب لتحذيرات ولآراء فقهاء الدستور بضرورة أن يكون الدستور أولاً وقبل الانتخابات البرلمانية والرئاسية، باعتبار أن الدستور هو الأساس الذى يحدد شكل النظام السياسى الجديد واختصاصات البرلمان وصلاحيات الرئيس والحكومة. لقد كان إصدار الدستور أولاً هو نقطة البداية الصحيحة لإقامة النظام السياسى الجديد بعد ثورة 25 يناير، وهى البداية الصحيحة التى كان من شأنها تجنيب مصر هذه الأزمة السياسية التى تحول دون تحقيق الاستقرار والتى تجعل البلاد فى مواجهة فراغ دستورى مقلق. ولذا، ورغم أن الأغلبية داخل الجمعية التأسيسية ماضية قدماً فى عملها وتسارع الزمن للانتهاء من صياغة مشروع الدستور.. تحسباً لصدور حكم المحكمة الدستورية ببطلان تشكيلها، فإنه يبقى ضروريا وللدواعى الوطنية وقف أعمال الجمعية لحين التوصل إلى حل توافقى لهذه الأزمة. ??? لقد كتبت قبل أسبوعين فى هذا المكان.. متحدثاً عن الخيارات المطروحة للخروج من مأزق الدستور وبعد أن بدأت إرهاصات تعثر التوافق العام داخل الجمعية التأسيسية وخارجها على المشروع النهائى للدستور، وكان أولها إعادة تشكيل الجمعية بقرار رئاسى يراعى تجنب غلبة تيار سياسى بعينه، وثانيها تشكيلها من عدد من فقهاء الدستور والقانون وبعيداً عن أى انتماء سياسى أو حزبى، وثالثها تشكيلها بالانتخاب الشعبى المباشر، أما آخرها فكان استدعاء دستور 1971 المعطّل. ??? غير أنى أجدنى أرجّح خيار العودة لدستور 71 باعتباره الخيار الأسرع والأكثر تحقيقاً للخروج من الأزمة ولكن شريطة أن تتم تنقيته من التعديلات التى أجريت عليه سواء فى أواخر حكم الرئيس الأسبق أنور السادات فيما يتعلق بفتح مُدد الرئاسة، أو تلك التى أجراها الرئيس السابق حسنى مبارك بهدف التمكين للتوريث. ولأن استقرار الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية بل الاجتماعية أيضاً بات مرهوناً بإصدار دستور متوافق عليه من كافة أحزاب وأطياف الأمة المصرية، ولأن مشروع الدستور الذى سيخرج من الجمعية التأسيسية بتشكيلها الحالى من شأنه إحداث انقسام وطنى مفزع، فإن خيار استدعاء دستور 71 يبقى هو الحل. المستشار محمود مكى.. واعتزامه الاستقالة إن صح ما يتردد فى الكواليس السياسية من أن المستشار محمود مكى نائب رئيس الجمهورية طلب مؤخراً من الرئيس محمد مرسى أن يعفيه من منصبه باعتبار أنه لا يمارس أى دور سياسى ولم تسند إليه أية مهام محددة وواضحة حتى الآن وحيث وجد نفسه غير مشارك فى أى شأن من شئون الدولة والرئاسة أو فى صناعة القرار.. إن صح ما يتردد أيضاً من أنه يعتزم تقديم استقالته، فإنه يكون قد أصاب كل الصواب وهو ما أوافقه عليه كل الموافقة. ??? لقد كان منصب نائب الرئيس سواء فى عهد الرئيس جمال عبد الناصر أو فى عهد الرئيس السادات منصباً شرفياً بلا اختصاصات، غير أنه كان من المفترض بل من المتوقع أن يكون لمنصب النائب فى الجمهورية الثانية بعد الثورة دور سياسى واضح ومهام واختصاصات محددة باعتبار أن من يشغله هو أول نائب لرئيس مدنى منتخب. لكن المستشار محمود مكى ظل منذ تعيينه نائباً للرئيس محمد مرسى غائباً عن المشهد السياسى ولا يمارس أى دور أو مهام، إلى أن ظهر مرة واحدة فى اجتماع عقده مع رؤساء تحرير الصحف، وبدا من حديثه أنه سيبدأ فعلياً فى ممارسة دور سياسى فاعل وهو ما دفعنى إلى الترحيب بهذه الخطوة وقتها وكتبت فى هذا المكان معبراً عن هذا الترحيب تحت عنوان ظهور النائب الغائب. وبعد هذه المرة الوحيدة التى ظهر فيها المستشار محمود مكى كنائب لرئيس الجمهورية فإنه عاد إلى الغياب ولم يظهر مرة أخرى سوى فى صلاة عيد الأضحى الماضى مع الرئيس مرسى. ??? قد يكون الارتباك السياسى وتوالى الأحداث والأزمات داخليا وخارجيا هو السبب فى عدم إسناد أية مهام لنائب الرئيس، ولكن ذلك كله لا يُعدّ مبرراً على الإطلاق لغيابه واختفائه. وأحسب أنه كقاضى جليل حمل معه مقعد القاضى إلى قصر الرئاسة حسبما قال فى المرة الوحيدة التى تحدث فيها.. أحسب أنه قد استشعر الحرج الذى جعله يأبى أن يكون نائباً شرفياً ولذا فقد طلب إعفاءه من المنصب. ??? يا سيادة المستشار محمود مكى.. أدعوك إلى الاستقالة فوراً.. صوناً لمكانتك القضائية الرفيعة، فإنك كقاض وكأحد فرسان تيار استقلال القضاء فى مكانة أرفع من أى مكان حتى لو كان منصب نائب رئيس الجمهورية. N