المستشار محمود مكى نائب رئيس الجمهورية.. حالة استثنائية فى تاريخ مصر الحديث منذ ثورة يوليو عام 1952 وسقوط الملكية وقيام الجمهورية الأولى، فهو أول نائب للرئيس فى الجمهورية الثانية بعد ثورة 25 يناير وهو أول نائب مدنى لرئيس مدنى منتخب انتخابا حرا نزيها، وهو أيضاً أول من شغل منصب النائب الذى ظل شاغراً لنحو ثلاثين سنة منذ اغتيال الرئيس السادات وصعود مبارك الذى شغل المنصب لأكثر من ست سنوات إلى كرسى الرئاسة. ثم إن ثمة أهمية خاصة لتعيين المستشار محمود مكى فى هذا المنصب الرفيع وهى أنه قاض وأيضاً لأنه قال إنه حمل معه كرسى القضاء ليجلس عليه فى قصر الرئاسة، وهو تصريح له دلالته بالغة الأهمية التى لا تخفى والتى تعنى أنه سيمارس مهام نائب الرئيس بضمير القاضى العادل وعلى النحو الذى يجعله ناصحاً أميناً للرئيس ونائباً سياسياً عادلاً مخلصاً للوطن والمواطنين. وقد يعلم أو لا يعلم الكثيرون أن المستشار محمود مكى نائب رئيس محكمة النقض كان أحد فرسان تيار استقلال القضاء مع المستشار زكريا عبد العزيز والمستشار هشام البسطويسى والمستشار هشام جنينة، وهو التيار الذى تصدى لتغوّل السلطة التنفيذية على القضاء قبل سقوط نظام مبارك، وهو التيار الذى كشف وتصدى لتزوير انتخابات مجلس الشعب عام 2005. ??? لقد عرفت المستشار محمود مكى عن قرب منذ عام 2005 مع نشوب أزمة قانون السلطة القضائية.. وتعرّفت عليه.. مدافعاً بشجاعة نادرة وعزم لا يلين عن استقلال القضاء، حيث حاورته والدكتور محمد سليم العوا فى إحدى حلقات البرنامج التليفزيونى الذى كنت أقدمه فى إحدى القنوات الفضائية، ثم استضفته مرة ثانية بعد انتصاره فى معركته مع وزير العدل وقتها الذى أحاله مع المستشار البسطاويسى للصلاحية. ومن اللقاء الأول وجدتنى مبهوراً بالرجل وبشخصيته الأخاذة فى تواضع جم يدعو للاحترام والتبجيل، ثم وجدتنى مشدوداً إلى حديثه المتدفق برؤى سياسية ووطنية وقانونية وقضائية شديدة العمق، حتى بدا لى وبكل الصدق والموضوعية قاضياً حكيماً بين السياسيين بقدر ما بدا فى نفس الوقت سياسياً ثاقب الرؤية بين القضاة. المفارقة المدهشة أننى منذ أن عرفت المستشار محمود مكى كنت أقول للقريبين منى أن هذا الرجل مؤهل لأن يكون رئيساً للجمهورية تستحقه مصر. كان هذا رأيى وانطباعى فى عام 2005 فى ذروة تسلط واستبداد وعنفوان مبارك ونظامه، ولم يكن ذلك الرأى سوى أحد أحلام اليقظة التى يتخيّل المرء حدوثها، إذ كيف كان ممكنا توقّع سقوط مبارك بثورة شعبية حسبما حدث فى 25 يناير وبعد ست سنوات. ولكن لأنه لا مستحيل فى عالم السياسة، ولأنه ليس ببعيد عن الخالق سبحانه وتعالى أن ينزع المُلك ممن يشاء، فقد سقط مبارك ونظامه، وكان المستشار محمود مكى أحد الذين عُرض عليهم الترشح للرئاسة ولكنه رفض، ثم تكتمل فصول المفارقة بتعيينه نائباً للرئيس، وصدق حدسى وحدث ما تخيّلت حدوثه أو قريباً جداً مما تخيّلت. ??? غير أن غياب المستشار محمود مكى عن المشهد السياسى والإعلامى منذ شغله لمنصب نائب الرئيس أثار الكثير من التكهنات والتساؤلات حول اختصاصات ومهام أول نائب فى الجمهورية الثانية، خاصة أن هذا المنصب فى الجمهورية الأولى بعهودها الثلاثة ظل دائماً منصباً شرفياً دون أى اختصاصات، وهو الأمر الذى لم يعد مقبولاً بعد ثورة يناير ومع قيام الجمهورية الثانية والتحول الديمقراطى. ولقد جاء أول ظهور إعلامى لنائب رئيس الجمهورية فى لقائه برؤساء تحرير الصحف الأسبوع الماضى وبذلك الحضور السياسى القوى ليؤكد أنه بدأ يمارس مهام منصبه فعلياً وأنه لن يكون نائباً شرفياً، إذ بدا واضحاً أن له رؤيته السياسية المحددة وآراءه الخاصة، وعلى النحو الذى أكده حديثه مع رؤساء تحرير الصحف. ??? أهم ما جاء فى حديث نائب الرئيس هو إعلانه عن أولى مهامه واختصاصاته وهى إدارة الحوار الوطنى مع القوى السياسية ومحاولة لم الشمل ثم حماية الحقوق والحريات إضافة إلى متابعته للمنظومة التشريعية. وجاءت دعوته للقوى والتيارات السياسية لإجراء حوار وطنى حول المواد الخلافية فى مشروع الدستور والخروج من أزمة الجمعية التأسيسية.. جاءت تفعيلاً وتأكيداً على ممارسته لاختصاصاته كنائب للرئيس. أما إشارته إلى أن جماعة الإخوان تسىء إلى الرئيس محمد مرسى بتصريحات بعض قياداتها بأكثر مما تخدمه فقد بدت رسالة واضحة للرأى العام بضرورة الفصل بين الدكتور محمد مرسى كرئيس لجميع المصريين وبين جماعة الإخوان التى جمد عضويته بها، وهى فى نفس الوقت رسالة تحذير شديدة اللهجة للجماعة. ولقد تبدّت رؤية نائب الرئيس الخاصة بإعلانه عن اختلافه مع الرئيس حول برنامج المائة يوم، باعتبار أن أية مشكلة من مجمل المشاكل التى وعد الرئيس بحلها تتطلب وحدها مائة يوم ليس لحلها ولكن فقط لدراستها. تأكيد نائب الرئيس على أنه لا نية لعودة مجلس الشعب بقرار جمهورى وأن الرئاسة ملتزمة بتنفيذ أى حكم قضائى يصدر فى شأن الجمعية التأسيسية بتشكيلها الحالى أو مجلس الشورى.. يعنى أنه مفوّض من الرئيس وهو بذلك يمارس فعليا مهام النائب، بقدر ما يعنى أهمية أن يكون نائب الرئيس قاضياً مستقلاً حريصاً على احترام النظام لأحكام القضاء. وبضمير القاضى العادل المستقل جاء تأكيده بلسان نائب الرئيس على أن الدستور الجديد لن يكون وثيقة غالب ومغلوب بل يجب أن يكون نابعاً من توافق الشعب، وأن يحمى الأقليات والفئات الأضعف، إذ أن الأقوى - على حد تعبيره - لا يحتاج إلى ضمانات فى الدستور. ??? ومتحدثاً عن السياسة الخارجية جاء تأكيد نائب الرئيس على رفض مصر للتدخل العسكرى فى سوريا.. مبدداً لهواجس إعادة توريط مصر فى حروب وعمليات عسكرية خارج حدودها، وهى الهواجس التى أثارتها تسريبات إعلامية فى هذا الشأن، وهو الأمر الذى نفاه بشدة، وبما يعنى أنه يمارس اختصاصات فعلية لمنصبه. ??? الأهم فى حديث نائب الرئيس أنه بدّد المخاوف بشأن ما تواتر عن توجه الدولة تحت رئاسة الدكتور محمد مرسى وحكم الإخوان نحو التضييق على حرية الإبداع والتعبير، حيث أكد - والعهدة عليه - أنه لا مصادرة على رأى ولا انقلاب على حرية الرأى والتعبير ولا ردة فى مسألة الحريات، وحيث قال بالحرف الواحد: «إن ضميرى لا يتحمل أى انتقاص من الحقوق والحريات ولن تعد إلى الوراء». وفى هذا السياق جاء تأكيده على عمق علاقته بالصحافة وتقديره لدورها فى كشف الفساد فى العهد السابق.. راوياً عدة وقائع عن علاقته بالصحافة فى أزمة تزوير انتخابات عام 2005، وكان كاتب هذه السطور أحد أطراف هذه العلاقة حسبما ذكرت سالفاً. ??? إن الحضور السياسى القوى للمستشار محمود مكى فى أول ظهور إعلامى له بعد غياب مقلق.. أكد أن لدينا نائب رئيس جمهورية يمارس اختصاصات محددة وأن هذا المنصب لم يعد منصباً شرفياً، بقدر ما أشاع حديثه الطمأنينة لدى المصريين جميعا.. بحسبانه أول قاض يشغل هذا المنصب وبحسبانه حمل معه كرسى القضاء ليجلس عليه فى قصر الرئاسة ليكون إلى جوار الرئيس حارساً للعدالة. N