كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية وخمس دقائق من بعد ظهر يوم 6 أكتوبر 1973م عندما عبرت طائرات سوريا ومصر خطوط المواجهة مع إسرائيل، واتجهت نحو أهدافها المحددة فى الخطة المشتركة، ثم هدرت مدافع العرب على طول الجبهتين الشمالية والجنوبية فى أقوى تمهيد نيرانى شهده الشرق الأوسط. على الجبهة المصرية انطلقت مائتان وخمسون طائرة تشق عنان السماء، فى طريقها المرسوم إلى عمق سيناء، حيث تقع أهدافها المنتخبة بحذق ومهارة، لتنفيذ الضربة الجوية المركزة التى كان عليها تحطيم ثلاثة مطارات وقواعد جوية، وعشرة مواقع صواريخ هوك، وثلاثة مراكز قيادة وسيطرة وإعاقة إلكترونية، بالإضافة إلى عدد آخر من محطات الرادار، وموقعى مدفعية بعيدة المدى، وثلاث مناطق شئون إدارية، وحصون العدو شرقى بور فؤاد. وفى اللحظة نفسها هدرت نيران أكثر من ألفى مدفع على طول الجبهة، بين مدفعية متوسطة وثقيلة، ومدفعيات وهاونات تشكيلات ووحدات المشاة والمدرعات ولواء صواريخ تكتيكية متوسطة المدى «أرض/ أرض». وبينما استمر الألف مدفع ونيف تصب حممها على خط بارليف ونقطة الحصينة، بدقة وكثافة لم يسبق لها مثيل، ولمدة 53 دقيقة كاملة راح عدد كبير آخر من المدافع يطلق نيرانه بالتنسيق المباشر المحكم التصويب على دشم العدو وأهدافه المنظورة التى نجح المراقبون فى كشف خفاياها رغم ما بذله العدو من جهد ومال لإخفائها وتمويهها عن المراقبة الأرضية والجوية. وتحت ستر هذه النيران القاتلة، التى ناهز وزنها الإجمالى ثلاثة آلاف طن على امتداد فترة التمهيد النيرانى للعبور المجيد، أخذت جماعات من الصاعقة ومغارز اقتناص الدبابات تعبر مياه قناة السويس، لتبث الألغام والشراك فى مصاطب دبابات العدو، وتقيم الكمائن على طرق اقتراب المدرعات إلى القناة، لتشل حركتها، وتمنعها من التدخل فى عملية الاقتحام الوشيكة. لقد كانت الساعة الثانية وخمس دقائق هى ساعة البدء التى حددتها القيادة الاتحادية المصرية السورية، كما كانت هى الساعة التى طال انتظار العرب لها، ليثأروا لنكسات سابقة، ويستردوا حقوقا مسلوبة، كانت هى الساعة التى أراد العرب أن يبدأوا فيها الجولة الرابعة مع إسرائيل. وسرعانما تتابعت الأحداث الجسام.. فى وتيرة عالية.. ثم استمر تتابعها ثلاثة وعشرين يوما حافلا بأخطر الأمور.. أيام كانت كلها مشحونة بالقتال الضارى العنيف، الذى تحطمت خلاله أساطير.. وتهاوت نظريات.. وسقطت عقائد.. وثورات استراتيجيات وانكشف الزيف المزاعم الإسرائيلية على امتداد ربع القرن المنصرم عن العرب وتخلفهم الحضارى الزعوم والفجوة التكنولوجية التى تمسك بتلابيبهم وعن أمن إسرائيل والحدود الآمنة.. والجيش الذى لا يقهر.. والذراع الطويلة وحصانة خط بارليف الرهيب الذى من المستحيل اختراقه. لقد صدقت إسرائيل أكاذيبها، حتى خرج عليها يوم 24 أكتوبر رئيس دولتها «أبراهام كاتزين» يكشف لشعبها طرفا من الحقائق الأليمة ويقول: «لقد كنا نعيش فيما بين عامى 1967 و 1973 فى نشوة لم تكن الظروف تبررها.. بل كنا نعيش فى عالم من الخيال لا صلة له بالواقع.. وهذه الحالة النفسية هى المسئولة عن الأخطاء التى حدثت قبل حرب أكتوبر، وفى الأيام الأولى للحرب، لأنها كانت قد تفشت فى كل مكان المجالات العسكرية والسياسية والاجتماعية.. وأحدثت فيها مواطن ضعف خطيرة، يجب على الإسرائيليين جميعا أن يتحملوا مسئوليتها.. وعلينا أن نتعلم بعد هذه الحرب الفظيعة أن نكون أكثر تواضعا وأقل نزوعا إلى المادية.. كما يتحتم علينا أن نبذل كل طاقاتنا لإزالة الفجوة الاجتماعية والتغلب على المادية التى أحدقت بنا». وفى الساعة 1420 بدأت الموجات الأولى لخمس فرق مشاة وقوات قطاع بورسعيد فى اقتحام قناة السويس، مستخدمة حوالى ألف قارب اقتحام مطاط، وبعد عدة دقائق وضع ثمانية آلاف جندى أقدامهم على الضفة الشرقية لقناة السويس يهللون بملء حناجرهم.. الله أكبر.. الله أكبر.. وبدأوا فى تسلق الساتر الترابى المرتفع، واقتحام دفاعات العدو الحصينة، وهم يحملون أسلحتهم الشخصية والأسلحة الخفيفة المضادة للدبابات. وسرعان ما رفرفت أعلام مصر فوق سيناء الحبيبة، فارتفع أول البنود فى الساعة 1430 فى نطاق هجوم الجيش الثالث الميدانى، ثم فى الساعة 1437 فى نطاق هجوم الجيش الثانى الميدانى، فكان دفعة معنوية هائلة للقوات اللاحقة أن تسرع بالعبور، وفى الوقت نفسه كانت الكتائب البرمائية تعبر البحيرات المرة من الجنوب، وبحيرة التمساح عند الإسماعيلية. وفى الساعة 1440 اقتربت بعض طائرات العدو فى مجموعات زوجية وفرادى وعلى ارتفاعات منخفضة لقصف قواتنا أثناء اقتحامها قناة السويس، وأسقطنا أول طائرة إسرائيلية فى الساعة الثالثة إلا عشر دقائق. وقامت القوات بحصار نقاط العدو القوية ومركز مقاومته وقلاعه الحصينة، وبدأت مهاجمتها وتدمير تحصيناتها، وسقطت أول حصون العدو/ «القلعة رقم 1» فى منطقة القنطرة- فى الساعة 1500 تماما، واستمرت القلاع تتهاوى بعدها فسقطت القلعة رقم «2» جنوب البحيرات فى الساعة 1525 ثم القلعة رقم «3» فى الكيلو متر 146 الساعة 1538 ومعها القلعة رقم «4 ،5» فى الشط والقلعة رقم «6» فى الجباسات، ثم أعقبها القلعة رقم «7» فى الفردان فسقطت فى الساعة 1620 ثم القلعة رقم «8» عند علامة الكيلو متر 10 جنوب بور فؤاد، وسقطت هذه القلعة الحصينة فى تمام الساعة 1700، وفى الوقت نفسه سقطت أيضا القلعة رقم «9» إلى الجنوب منها، وبعدها بنصف ساعة سقطت القلعة رقم «10» عند الكيلو متر 19 وسقطت معها القلعة رقم «11» عند الكاب، ولم تمر خمس دقائق بعد ذلك حتى سقطت القلعتان رقم «12 ،13» جنوب القنطرة ومعهما القلعة رقم «14» شمال البلاج. وصدت قوتنا ودمرت هجمات العدو المضادة المحلية- وحتى الساعة 1510 كانت عناصر دفاعنا الجوى قد أسقطت للعدو أربع طائرات فى الجبهة. وتحت ستر قوات المشاة ونيران المدفعية تقدمت وحدات المهندسين العسكريين، وقامت بفتح الممرات اللازمة فى الساتر الترابى، وذلك باستخدام مضخات المياه القوية «مدافع المياه» وأتمت فتح أول ممر منها فى زمن قياسى لم يتجاوز الساعة، ثم استكملت فتح باقى الممرات على طول المواجهة فى الساعة 1525، وفى أثناء ذلك كانت وحدات أخرى من المهندسين تقوم بإسقاط معدات «براطيم» المعديات والكبارى وتقيمها فوق مياه القناة. ونجحت قواتنا فى إقامة عدد كبير من المعديات، كما أنشأت 10 كبار ثقيلة و10 كبار مشاة، وبدأ تدفق الدبابات والمعدات الثقيلة من الأرض المصرية فى الغرب إلى الأرض المصرية المحتلة فى الشرق.. وسار العمل دقيقا بأكثر مما توقعه أحد.. وأثبتت الخطة كفاءتها وكانت المهام تنفذ بجسارة واقتدار وحتى الساعة 1529 كانت عناصر دفاعنا الجوى قد أسقطت للعدو سبع طائرات بين فانتوم وسكاى هوك. وفى الساعة 1550 استأنفت إذاعة إسرائيل إرسالها بعد صمت طويل منذ الصباح الباكر مراعاة لطقوس عيد الغفران، وأصدرت نداء سافرا لقواتها الاحتياطية للتوجه فورا إلى مراكز التعبئة والحشد، وفى تمام الساعة 1600 من يوم 6 أكتوبر شعرت القيادة الجوية الإسرائيلية فى أم مرجم بأن قصف الطائرات والصواريخ المصرية للمنطقة قد أخل بالسيطرة من مركز القيادة فى هذه المنطقة، فقررت نقل السيطرة على القوات الجوية إلى العريش.