من أهم وأخطر فنون الجاسوسية والمخابرات على الإطلاق، فن كشف الحقائق ... هذا لأن عالم المخابرات شديد التشابك والتعقيد، وأعماله لا تأتى أبداً على نحو مباشر، أو على نحو يمكن كشفه أو التوصل إليه فى سهولة، ولهذا فأجهزة المخابرات تسعى طوال الوقت إلى البحث عن المعلومات، وتجميعها، وتحليلها، وحفظها أولاً بأول... وأجهزة المخابرات، فى العالم كله، لا تسعى لجمع المعلومات، عندما تحتاج إليها، بل هى تعتمد على أن تكون المعلومات موجودة، عند الاحتياج إليها ... وقطاع المعلومات فى أجهزة المخابرات قطاع ضخم للغاية، ويعتمد على كل أنواع المعلومات، فى كل ثانية من الليل أو النهار، وعبر كل المصادر الممكنة، فهناك قسم كامل، يطالع كل الصحف، التى تصدر فى كل دول العالم، وبالذات دول الجوار، أو الدول التى تتعارض فى أمنها القومى، مع الأمن القومى لدولة جهاز المخابرات، والغرض من هذا هو رصد وجمع المعلومات العلنية، التى هى جزء مهم وكبير، من منظومة المعلومات ... قد يشير كاتب سياسى، فى صحيفة ما، إلى لقاء تم بين مسئولى دولتين، فى مكان ما، وأحيط بنوع من السرية، فيقوم جهاز المخابرات بالبحث عن الأسباب المحتملة لذلك اللقاء، والنتائج المتوقعة منه، ويربط كل هذا بمنظومات المعلومات الأخرى، للخروج بنتائج مهمة، تفيد فى استنتاج خطوة قادمة، أو الاستعداد لمواجهة تالية... وربما لهذا استخدم جهاز المخابرات المصرى، قبيل حرب أكتوبر 1973 مباشرة، أخبار الصحف المصرية؛ لإيصال رسائل بعينها إلى المخابرات الإسرائيلية، مثل نشر إعلان فتح باب عمرة رمضان، لضباط القوات المسلحة، وخبر زيارة الأميرة البريطانية (مارجريت) لمصر، وخبر استعداد قائد القوات الجوية المصرية لزيارة (ليبيا)، وكل هذا لكى يرصد قسم المعلومات العلنية، فى المخابرات الإسرائيلية تلك الأخبار، فتوحى إليه بأن الفترة التالية لن تحمل له أية مفاجآت عسكرية... وإلى جوار قسم معلومات الصحف، هناك قسم خاص، للاستماع إلى كل إذاعات العالم، بكل لغاته، بحثاً أيضاً عن خبر ما، يمكن أن يضىء الضوء على معلومة سابقة، أو يؤدى للبحث عن معلومة تالية... أضف إلى هذا قسم الاعتراض، الذى يتابع أية اتصالات لاسلكية تتم، من وإلى البلاد؛ تحسباً لأية احتمالات مستقبلية... وقديماً، كان قسم الاعتراض هذا هو المسئول، عن رصد أية رسائل لاسلكية مشفرة، ترد إلى جواسيس (إسرائيل) فى مصر، أو تبث إلى (إسرائيل)، من جواسيسها فى الداخل، ولقد أفاد كثيراً، فى رصد وكشف بعض شبكات التجسس، فى فترة ما قبل حرب أكتوبر... وعلى الرغم من تطور وسائل الاتصال، فى العصر الحديث، فلا يمكن إيقاف عمل قسم الاعتراض اللاسلكى، وإلا عاد العدو لاستخدام الوسائل التقليدية؛ ليفلت من المراقبة والتتبع... وهناك أيضاً قسم يختص بمتابعة ومطالعة وتحليل كل ما يصدر عن الجاسوسية، من كتب وحتى روايات، فى كل أنحاء الأرض أيضاً؛ فقد تحوى بعضها معلومات جديدة، أو فكرة مبتكرة، اخترعها مؤلف روائى، ولكنها تصلح للتنفيذ على أرض الواقع، ثم أنها أيضاً وسيلة ممتازة؛ لمعرفة كيف يفكِّر العدو، وكيف يخفى أخطاءه، ويحاول تحليل أو إعادة صياغة هزائمه ... كل هذا يخص أقسام المعلومات العلنية، فى أى جهاز مخابرات فى العالم، وكلها معلومات يمكن للعامة معرفتها، ولكنها تحتاج إلى جيش من الاخصائيين والفنيين؛ لرصدها، وجمعها، وتنظيمها، وتحليلها، واستخراج ما بين سطورها من معلومات ونتائج، لم يأت ذكرها صراحة، وفى بعض الأحيان، لا يمكن التيقن من صحة النتائج والتحليلات، إلا عبر معلومات أخرى، تأتى من مصادر سرية، سمعية أو بصرية... وفى عالم المخابرات قاعدة تقول: إن المعلومة لا يمكن اعتبارها صحيحة، إلا لو جاءت من مصدرين محل ثقة على الأقل، والأفضل أن يتم تدعيم أحدهما بمعلومة مسجلة، سمعية أو بصرية أيضاً، ولهذا فقسم المعلومات العلنية، يرتبط ارتباطاً وثيقاً، من خلال منظومة المعلومات، بقسم المعلومات السرية ... وقسم المعلومات السرية هذا يرتبط بوجود جاسوس بشرى، فى موقع المعلومة، إما أن يتم زرعه فيه، وهذا أمر شديد الصعوبة والتعقيد، ويحتاج إلى وقت طويل، وإعداد دقيق، ولكنه يصير مصدراً دائماً للمعلومات بعدها، ولفترة طويلة، وإما أن يتم تجنيده، بحيث يصير عيناً داخل موقع المعلومة، ترصد كل شىء، وتنقل كل ما يمكنها، إلى جهاز المخابرات ... ولو أن الجاسوس المزروع يحتل موقعاً مثالياً، يمكنه أن يقوم بتسجيل المعلومة من مصادرها، مستخدماً تقنيات المخابرات المختلفة، والجاسوس المجند، يمكنه زرع أجهزة تنصّت دقيقة، أو كاميرات منمنمة، فى الموقع المراد سحب المعلومة منه، أو يمكنه دس فيروس كمبيوتر جديد، تم تطويره فى جهاز المخابرات الذى جنده، فى شبكة معلومات العدو، بحيث يصبح ذلك الفيروس عيناً للمخابرات، فى قلب منظومة العدو ... ومع تطور التكنولوجيا الحديثة، صارت هناك وسائل عديدة، لكشف تلك الفيروسات، أو تحديد وجود أجهزة التنصّت، والكاميرات المنمنمة ... المهم أن كل هذا يستخدم فى النهاية لهدف واحد، ألا وهو جمع المعلومات، وحشدها وتكديسها؛ بحيث تصبح فى متناول اليد، فى لحظة الاحتياج إليها، كما تصبح وسيلة ممتازة، لاستنباط الخطوات التالية للعدو، أو ما يخطط له من عمليات مستقبلية ... هذا لا يعنى أن أجهزة المخابرات، ومهما بلغت براعتها، تستطيع امتلاك بلورة سحرية، يمكنها رصد كل ما يمكن أن يحدث مستقبلياً، ولكنها تبذل قصارى جهدها؛ لتفادى أية مفاجآت قادمة، بقدر الإمكان، فإذا ما حدثت امور غير متوقعة، كان على جهاز المخابرات محاولة رصد أسبابها وكشف منفذيها ... وهذا فن آخر.