كل شئ فى عالم الجاسوسية يتطوًَّر فى سرعة ... وكل تقنية من تقنيات التجسًَّس، تدخل فى سباق سرعة من نوع آخر، إذ يتحوًَّل الأمر، من تطوير تقنى عادى، إلى حرب تقنية، يفوز فيها الأسرع، والأكثر قدرة على الابتكار... وتقنية التصوير، الذى يدرك كل مصوًَّر محترف، أو حتى مصوًَّر عادى، كم صارت تتطوًَّر فى سرعة، فى هذا الزمن، كانت مضمار حرب طاحنة، فى عالم الجاسوسية والمخابرات ... ولقد ساعد تطوًَّر التقنيات الأخرى، على سرعة تطوًَّر تقنية التصوير أيضاً؛ إذ تحوًَّل التصوير الجوى، الذى كان يتم بوساطة طائرات ذات قدرة على الارتفاع عالياً، إلى تصوير رقمى، يتم بوساطة الأقمار الصناعية، التى تجوب الفضاء الخارجى، المحيط بالأرض، طوال الوقت تقريباً، ويمكنها رصد أية بقعة فيه، بدقة وضوح عالية، وإرسالها فى لحظات إلى حيث يمكن فحصها وتحليلها، واستخلاص المعلومات الممكنة منها ... والأمريكيون يبالغون كثيراً، فى وصف قدرة أقمارهم الصناعية على التصوير الدقيق، حتى أنهم أعلنوا، عقب سقوط نظام (صدًَّام حسين) فى العراق، أنهم قادرون، مع دقة التصوير فى أقمارهم الصناعية، على معرفة نوع ولون الملابس الداخلية للرئيس، ثم فشلت كل تقنياتهم فى العثور على الرئيس نفسه، إلا عبر وشاية من أحد المقربين له ... ولكن هذا لا يمنع من أنهم قد أدخلوا تطوًَّرات كبيرة على نظم التصوير والرصد، فى أقمارهم الصناعية، بعد الخطأ الذى وقعوا فيه، فى حرب الخليج الأولى؛ عندما رصدوا منصات صواريخ وسيًَّارت مدرعة، فى صور أقمارهم الصناعية، وبعد أن قاموا بقصفها، بصواريخ تساوى الملايين، كشفوا أنها لم تكن سوى هياكل خشبية، مصنوعة بدقة؛ لخداع صور الأقمار الصناعية بالتحديد... فقد أضيفت تقنية التصوير بالأشعة تحت الحمراء، التى تستخدم فى رصد الأهداف الليلية، وتقنية أخرى، أشبه بتقنية الرصد بالموجات فوق الصوتية؛ لتحديد الأهداف، التى تم إخفاؤها أو تمويهها... ولو حاولنا متابعة تقنية التصوير فى عالم الجاسوسية الآن، فسنجد أنها قد بلغت حداً أشبه بالخيال العلمى، حيث يمكن الآن تصوير الأشخاص، الذين يجلسون داخل حجرات مغلقة، إلا لو حصنوا جدران تلك الحجرات بألواح من الرصاص، الذى لا تخترقه الأشعة بأنواعها، أما آلات التصوير نفسها، فقد صارت فى حجم رأس الدبوس، ويمكن إخفاؤها فى طرف قلم، أو أرقام ساعة يد، او حتى فى أزرار قميص عادى، وانتقلت تقنية التصوير من التصوير الضوئى، إلى التصوير الرقمى، إلى التصوير ثلاثى الأبعاد (الهولوجرام)، والذى يستخدم نوعاً من أشعة الليزر، لرصد الأجسام من كل الزوايا، وعمل صورة مجسًَّمة لها، تظهر كل جوانبها فى وضوح ... والمتابع لأفلام (جيمس بوند)، منذ نهايات الخمسينات، سيفاجأ بأن كل التقنيات، التى كانت تبهر المشاهد فى ذلك الحين، وتمنحه صورة خرافية عن اجهزة المخابرات، لم تصبح فقط حقيقة تقنية فى القرن الحادى والعشرين، بل صارت أيضاً متاحة للمستهلك العادى، وبأسعار فى متناول اليد، فالمتابع للتسوًَّق عبر شبكة الانترنت، سيجد أجهزة اتصال دقيقة، فى ساعات يد صغيرة الحجم، ومزوًَّدة أيضاً بكاميرا رقمية، يمكن استخدامها لعمل اتصال مرئى شديد الوضوح، وسيجد كاميرات تصوير شديدة الدقة، مخفاة فى مناظير شمسية، وأحزمة، ولعب أطفال، وحتى فى دبوس صغير، يوضع على الصدر... كل هذا صار تقنية متاحة للمستهلك العادى، أما فى عالم المخابرات والتجسًَّس، فالتقنية تفوق هذا بكثير، إذ صار هناك زجاج عادى المظهر، يمكن استخدامه على الانترنت وكأنه عميل «خمس» نجوم فى منظار طبى عادى، ولكنه يحوى موًَّصلات شديدة الصغر والدقة، تنقل كل ما يراه الجاسوس، إلى مستقبل يجلس فى منطقة ليست بالقريبة، بحيث يتحوًَّل المنظار الطبى، عادى المظهر إلى جهاز رصد من الدرجة الأولى؛ إذ أن تقنية المنمنمات (نانوتكنولوجى)، قد جعلت هذه الأشياء دقيقة للغاية، وربما تصبح ميكروسكوبية أيضاً، فى المستقبل القريب، بحيث تتحوًَّل تقنية الرصد، فى زجاج المنظار الطبى، إلى تقنية أدق، يمكن غرسها فى عدسات لاصقة بسيطة... هذا التطوًَّر أضاف عبئاً كبيراً على عالم المخابرات، وخاصة على ما يسمى بالشق السلبى منه، والمسئول عن محاولة منع العدو من الحصول على المعلومات، إذ صار السباق كله يتركًَّز على إخفاء المعلومات السرية، حتى عن الأعين، والبحث عن وسائل تقنية جديدة؛ للكشف عن أجهزة الرصد بالغة الدقة والصغر....وحرب التكنولوجيا، والتكنولوجيا المضادة، والتكنولوجيا المضادة للتكنولوجيا المضادة، صارت جزءاً أساسياً من عالم المخابرات والجاسوسية، بل وانتقلت حتى إلى الحياة اليومية المعتادة، فهناك أجهزة رادار؛ لرصد السيارات المسرعة، وأجهزة تكشف أجهزة الرادار، فور الدخول فى مداها، وأجهزة أخرى تكشف أجهزة كشف الرادار، وهناك أجهزة دقيقة للتنصّت، وأجهزة للشوشرة على أجهزة التنصًَّت، وأجهزة تكشف وجود أجهزة التنصًَّت، وتزيل الشوشرة ... وتستمر حرب التقنية ... والجاسوس المحترف، فى زمننا هذا، لم يعد يحمل كتاباً للشفرة، أو حبراً سرياً، أو ميكروفيلماً، وإنما صار يحمل تقنية شعبية معتادة، تحوى داخلها تقنية جاسوسية متطوًَّرة؛ فهو قد يحمل هاتفاً محمولاً، من طراز عادى، ولكنه يحوى برنامج تشفير شديد التطوًَّر، بحيث يمكنه أن يرسل عبره أية معلومات، من خلال رسالة نصية عادية، ولكنها تخضع للتشفير فور كتابتها، بحيث لا يمكن فهم محتواها، حتى ولو تم تعقًَّبها، إلا من خلال برنامج مماثل، فى هاتف المستقبل، وقد يحمل وحدة معلومات صغيرة (فلاش ميمورى)، بريئة المظهر، ولكن لا يمكن إخراج المعلومات المخزًَّنة عليها، إلا عبر برامج خاصة، أو تحت الأشعة دون الحمراء، أو فوق البنفسجية، كما حدث مع جاسوس تم الإيقاع به فى (مصر)، عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير.... والحديث عن تقنية التجسًَّس يطول، مع ذلك الكم الهائل من التقنيات، التى يتم ابتكارها فى كل لحظة؛ لتسهيل عملية التجسًَّس وجمع المعلومات، والتصوير ليس التقنية الوحيدة، التى يتم تطويرها يومياً، وإنما هناك أيضاً التقنية الصوتية، و .... لهذا حديث طويل آخر.