وصلتنى رسالة فى بريدى الإلكترونى بعنوان «العبرة» وهى تلخص قصة سيدنا يوسف فى بعض جمل ذات معان كثيرة.. فقد أراد أخوته أن يقتلوه.. فلم يمت، ثم أرادوا أن يُمحى أثره.. فارتفع شأنه، ثم يباع ليكون مملوكا.. فأصبح ملكا، فعلى الإنسان ألا يقلق من تدابير البشر.. فإرادة الله فوق إرادة الكل.. فعندما كان يوسف فى السجن كان هو الأحسن بشهادة رفيقيه «إنا نراك من المحسنين» لكن الله أخرجهما قبله.. وظل هو- رغم كل مميزاته- بعدهما فى السجن بضع سنين، فقد خرج الأول ليصبح خادما، وخرج الثانى ليقتل.. بينما انتظر يوسف كثيرا.. ولكنه خرج ليصبح «عزيز مصر».فإلى كل أحلامنا المتأخر، إلى كل الرافعين الذين تتأخر أمانيهم عن كل ما يحيط بهم بضع سنين، لا بأس.. دائما ما يبقى إعلان المركز الأول.. لآخر الحفل! فإذا سبقك من هم معك.. فاعرف أن ما ستحصل عليه أكبر مما تتصور.. تأكد أن الله لا ينسى.. وأن الله لا يضيع أجر المحسنين. انتهت الرسالة.. التى جاءتنى فى وقت أشعر فيه ببعض الإحباط والظلم.. قد يكون ذلك خطأ فأنا مؤمن بقضاء الله وقدره.. وأن الله مع الصابرين.. ولكنى «بشر» فى كل الأحوال! المهم أن تلك الرسالة الجميلة التى جاءت فى وقتها تماما أعادتنى إلى السورة الكريمة المحببة إلى قلبى والتى أحب الاستماع إليها كثيرا بصوت المرحوم عبد الباسط عبدالصمد.. ففيها الكثير مما يجب التوقف عنده.. أولها تلك الجمل القصيرة القوية التى ذخرت بها السورة.. والتى أصبحت فيما بعد بمثابة «الحكمة» التى تقال فى بعض المناسبات.. مثل «بل سولت لكم أنفسكم أمرا.. فصبر جميل.. والله المستعان على ما تصفون» وأيضا «والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون».. و «وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين» و «وراودته التى هو فى بيتها عن نفسه».. و «إن الحكم إلا لله».. و «قضى الأمر الذى فيه تستفتيان».. و«وما أغنى عنكم من الله من شىء».. و«إلا حاجة فى نفس يعقوب قضاها».. و«إن كيدهن عظيم».. و«إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون».. و«ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين». فكل هذه الآيات القصيرة فى كلماتها القوية فى معناها لا يمكن قراءتها دون التوقف عندها والغوص فى معناها ومغزاها، ثم هناك أيضا ما يسمى بالضعف البشرى.. والغيرة العائلية والصبر عند الشدائد. والكذب الذى يفضح نفسه.. ورجاحة العقل وحسن التدبير.. وغيرها مما تكشف عنه السورة التى وصفها الله سبحانه وتعالى بأحسن القصص. ??? كما أننى أتوقف كثيرا عند معجزة قميص يوسف.. والتى تتكرر فى السورة ثلاث مرات.. حيث كانت الأولى عندما أقنعوا والدهم بأن يسمح لولده المحبب إلى قلبه أن يذهب معهم ليلعب ويرتع وأنهم سيحافظون عليه.. ولكن لأن يعقوب عليه السلام كان مكشوفا عنه الحجاب- كما يقال- فقد حذرهم من أن يأكله «الذئب» وهم عنه غافلون.. ولكنه لم يستطع أن يمنع القدر وذهبوا بأخيهم ونفذوا مؤامرتهم التى أوحيت إليهم وهم لا يشعرون، حيث ألقوه فى غيابات الجب.. وجاءوا على قميصه بدم كذب.. حيث ادعوا أن الذئب أكله، بينما كانوا يتسابقون ولكن أباهم لاحظ أن القميص سليم وليس ممزقا.. وهو ما يكذب روايتهم.. بل إنهم عندما حاولوا إخبار أبيهم بروايتهم ضمنوها ما يثير الشك فيها.. حيث قالوا «يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين».. ومن هنا جاءت إجابة أبيهم السريعة «بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون».. ثم تستمر القصة حيث يلتقطه بعض التجار ويبيعونه لأحد وجهاء مصر الذى أوصى زوجته أن تكرم مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا.. وكل ذلك من تصاريف الله سبحانه وتعالى ليمكن ليوسف فى الأرض ويعلمه من تأويل الأحاديث.. فهو غالب على أمره.. وهو الذى يجزى المحسنين. وهنا تأتى المعجزة الثانية للقميص.. حيث كان يوسف جميل الصورة وفى ريعان شبابه.. فحاولت المرأة مراودته عن نفسه والاستمتاع بشبابه.. وفعلا همت به.. وهم بها لولا أن رأى برهان ربه.. فاستعاذ بالله من الشيطان الرجيم.. وصرف الله عنه الفحشاء والسوء لأنه من عباده المخلصين.. ولكنها واصلت فطاردته حينما هم بالخروج من الباب ولكنها سارعت بالإمساك بقميصه من الخلف لتمنعه من ذلك.. ولكنهما فوجئا برب البيت أمامهما! ولقد صورت الآيات الكريمة تلك الواقعة بكلمات قليلة وجمل موحية ولكنها جازمة قاطعة حيث قالت «وراودته التى هو فى بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك.. قال معاذ الله.. إنه ربى أحسن مثواى إنه لا يفلح الظالمون.. ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه، كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين.. واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدا الباب».. ويلاحظ هنا أنها هى التى همت به أولا.. ثم طاردته وأمسكت بقميصه من الخلف.. ومع ذلك سارعت باتهامه حيث قالت لزوجها «ما جزاء من أراد بأهلك سوء إلا أن يسجن أو عذاب أليم».. أى أنها حددت الجزاء أيضا.. وقبل أن تتبين الحقيقة.. ولكن الله يعلم السر وما يخفى، فقد أرسل له رجلا حكيما كان يرافق زوجها فاستمع للطرفين مع تحديد شرط البراءة مسبقا.. فبعد ما اتهمت الزوجة يوسف بمحاولة الاعتداء عليها.. دافع يوسف عن نفسه بأنها هى التى راودته عن نفسه.. وهنا «وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين.. وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين».. وعندما اطلع الزوج والشاهد على القميص لاحظا أنه قطع من الخلف أى أنه لم يكن فى حالة هجوم عليها ولم تكن هى فى حالة دفاع عن نفسها، وإنما هى التى كانت تطارده وأمسكت بقميصه من الخلف فمزقته.. وهنا ثبتت براءة يوسف.. «فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم».. خاطب الزوج يوسف أعرض عن هذا أى انسى ما حدث وكأنه لم يكن.. وخاطب زوجته بأن تستغفر ربها لأنها كانت من الخاطئين.. فمرة أخرى.. أنقذ القميص يوسف من اتهام غير صحيح.. بل إنه اتهام مشين.. فكيف له أن يخون الرجل الذى أواه فى بيته وراعاه حتى اشتد عوده وبلغ أشده.. ولكن الرجل كان عاقلا ويعلم أن كيد النساء عظيم.. خاصة بعدما تبين له حقيقة ما حدث ورأى البينة واضحة لاشك فيها وتكشف عن أن زوجته هى الخاطئة، ولذلك طالبها بالاستغفار والتوبة. ??? ثم تستمر القصة بدخول يوسف السجن وتفسيره الرؤية لرفيقيه ويخرج أحدهما ليعمل خادما لدى الملك الذى يرى رؤية سبع بقرات سمان يأكلهن سبع بقرات عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات، ويسأل الملك من حوله عن تفسير الرؤية.. فيخبروه أنها أضغاث أحلام، ولكن الخادم يخبره بقدرة سيدنا يوسف على التفسير.. وفعلا ينجح فى ذلك ويختصه الملك لنفسه ويعينه وزيرا على خزائن مصر.. «وهكذا مكنا ليوسف فى الأرض يتبوأ منها حيث يشاء» ويأتيه إخوته فى ذلك، ولكن والده يحزن لذلك كثيرا حتى ابيضت عيناه من الحزن بعد أن كظم غيظه، ومع ذلك طلب من أبنائه أن يذهبوا ويتحسسوا من يوسف وأخيه وألا ييأسوا من روح الله.. وفعلا يكشف يوسف عن نفسه ويعاتب إخوته.. ثم يعلم بما حدث لوالده.. ويخاطب إخوته.. «اذهبوا بقميصى هذا فألقوه على وجه أبى يأتى بصيرا».. وعندما اقتربوا من منازلهم.. فاجأ أبوهم الجميع بقوله «إنى لأجد روح يوسف لولا أن تفندون».. وعندما جاء البشير ألقاه على وجه فارتدا بصيرا.. فقال «ألم أقل لكم إنى أعلم من الله ما لا تعلمون». واستغفر ربه لأبنائه.. ودخلوا على يوسف فى مصر فرفع أبواه على العرش وخروا له سجدا.. وقال ياأبت هذا تأويل رؤياى من قبل قد جعلها ربى حقا.. إذ أخرجنى من السجن وجاء بكم من البدو بعد أن نزغ الشيطان بينى وبين إخوتى.. إن ربى لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم». نعم إن قصة يوسف عبرة لأولى الألباب.. ولم يكن حديثا يروى أو يفترى.. وإنما كانت تصديقا وتفصيلا لكل شىء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون.. سبحان الله وصدق الله العظيم..