انتهى العصر الجاهلى بظهور الإسلام، بعد أن استمر خمسين عاماً، كان الغناء إما الحداء أو غناء الفتيان فى أوقات فراغهم، وكانوا يسمون الترنم بالشعر غناء، أما التهليل أو الترتيل فهو التعبير أو التذكير بالغابر. كان الشاعر فى الجاهلية موسيقيا بطبيعته وفطرته، أما إذا كان صوته مسناً ولابد، فكان يتخذ مغنيا ليقوم بإنشاد شعره أى كان يتخذ له راوية لإلقاء أشعاره، وقد فعل ذلك أمير الشعراء أحمد شوقى الذى كان شعره أعلى كثيرا من مستوى قدرته على الإلقاء، وكان العربى فى الجاهلية يحب الكاس والطاس والميسر وبجانب ذلك يعشق الصيد وشغوفا بالغناء وسماع المزهر أى الدف. وحفل تاريخ الجاهلية بأخبار القيان وكان الغناء مقصورا عليهن كحرفة، وكان العرب يستقدمونهن من بلاد العجم والروم ومصر ومعهن آلاتهن وكانت بيوت الأشراف لا تخلو من القيان مثلما لا تخلو من أثاث المنزل، وكان العرب يطلقون على القيان اسم جرادة ومن هنا ظهر المثل العربى القديم تركته تغنيه الجراداتان وهما جرادتا عاد. وكان لمعاويه بن بكر جرادتان ومثلهما لعبد الله بن جدعان وقد وهبهما للشاعر الشهير أمية بن أبى الصلت. فى العام الهجرى التاسع (630م) أهدى المقوقس جاريتين مصريتين منهما سيرين وكانت مغنية إلى رسولنا الكريم فأهداها إلى شاعر الرسول حسان بن ثابت واستطاعت أن تقوى الصلة الفنية بين مصر والموسيقى السائدة فى ذلك الزمان، ثم تتلمذت عليها أهم مغنيات العصر مثل عزة الميلاء وزينب وخولة والرباب وسلمى ونشر هذا اللون الغنائى المصرى فى سوريا وبعض البلاد العربية - أى أن الغناء المصرى كان زائدا فى ذلك العصر كما هو الآن. أطلق اسم الميلاء على المرأة لتمايلها فى مشيتها، وقيل بل لأنها كانت تلبس الملاء وتتشبه بالرجال، وقيل إنها كانت مغرمة بالشراب ومن أقوالها المأثورة فى هذا المجال «خذ ملتنا وأردد فارغا»، كانت المرأة الميلاء أقدم من غنى فى الحجاز، وكانت تجيد العزف على آلة العود وكان مشايخ أهل المدينة إذا ذكروا عزة قالوا: لله درها ما كان أحسن غناءها ومد صوتها وأندى حلقها وأحسن ضربها بالمزاهر والمعازف وسائر الملاهى وأجمل وجهها وأظرف لسانها وأقرب مجلسها وأكرم حلقها وأشجى نفسها وأحسن مساعدتها. وظلت عزة نجمة للغناء من العصر الجاهلى إلى عصر بنى أمية وتعلمن منها كثيرات، ومن مغنيات العصر «أرنب المدينة» و «جليسة الملكية» وكانت حفيدة لشماس وتعلمت الغناء على أساطين الفن فى عصرها مثل ابن سريج ومعبد ومالك، وقد أرسل محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان إليها يخطبها وهو ابن عم أمير المؤمنين، فقالت لرسوله: زواجا معلنا نعم.. سرا لا، فلما رجع للعريس قال له: اذهب وقل لها: تختلف إلىّ أردد بصرى فيها لعلى أسلو، فضحكت وقالت: أما هذا فنعم ولسنا نمنعه منه». أما الجارية «ظبية» التى أخذت الغناء عن معبد وعُنى بها فقد اشتراها رجل من العراق وذهبت معه إلى البصرة وباعها لرجل من الأهواز فقامت بتعليم كل جواريه الغناء، أما الجارية فرتى فكان ابن الأخطل يعلمها الغناء بهجاء الرسول وأصحابه فكانت ممن أهدر دمهم يوم الفتح، لكنها أسلمت، وقال قنديل الجصاص عن المغنية رقطاء الحيطية» إنها أوتيت جزءاً من النبوة!! أما الأصفهانى فقد كتب عنها فى كتاب «الأغانى» «إنها مغنية من أضرب الناس على آلات اللهو والطرب.. ومن مغنيات ذلك الزمن «رائقة»، و «رشا». كان الغناء نغما مقررا يعتمد على الشعر وكان غير ممنوع فى موضوعاته وبحوره، ويعتمد على المبالغة فى استعمال المحسنات البديعية كالاستعارة والتشبيه مع قلة الابتكارات، وكما كان الشعر يلقى ارتجالا كان الغناء أيضا، فلم يبق منه للتاريخ شيئا، وكما سبق أن قلنا إن الغناء كان مهنة نسائية وبالتحديد للقيان أى الجوارى وكان لمغنى مكة مذهب مختلف فى الغناء عن مذهب مغنى المدينة. وحاول بعض الغلمان تعاطى الغناء فتشبهوا بالنساء وأطلق عليهم لقب «المخنثون» وعلى رأسهم «الدلال و«طويس» و «وهيت» ولم ينجحوا فيما أرادوا وعاد الغناء شغلانة حريمى. ما أشبه اليوم بالبارحة!