يؤسفنى أن أقول إن كل من تناول قضية التمويل الأجنبى خلال الأيام الماضية تناولها بنفس منطق “العميان” مع الفيل فى الحكاية الشهيرة؛ فكل “أعمى” تحسس جزءاً من الفيل وتخيل وحشاً أسطورياً لا وجود له على أرض الواقع..! بمعنى أن الكل اختزل قضية التمويل الأجنبى فى مشهد واحد فقط هو رفع الحظر عن سفر المتهمين الأجانب...... وبدأت كل الأقلام بلا استثناء تتحدث عن إهدار الكرامة المصرية واستباحة السيادة الوطنية والركوع لماما أمريكا بل والسجود لها أيضاً، وكيف انبطحت الحكومة والمجلس العسكرى أمام الضغوط الأمريكية وفضيحة اختراق القضاء الذى أصبح فى نظر هؤلاء، فى يوم وليلة فقط، مسيَّساً ومدفوعاً بأهواء الحكومة والمجلس العسكرى.. إلى آخر ذلك الكلام المستفز والذى يتجاهل قيمة وقامة مصر ومن يتولون المسئولية فيها الآن.. واللطيف فى الأمر أن معظم الكُتّاب، وكل الصحف قومية وغير قومية، تحولوا إلى كُتّاب ساخرين وكأنهم من سلالة الريحانى والمهندس وإسماعيل يس، وسخروا من ترحيل المتهمين الأجانب فى قضية التمويل الأجنبى، ووصل الأمر بالبعض إلى تشبيه المحترم د.كمال الجنزورى رئيس الوزراء بالريس حنفى اللى كلمته مابتنزلش الأرض أبداً، وأن أمريكا هى أم حميدة سيدة البحار، والتى ما أن "تزغر" للريس حنفى حتى ترتعد فرائصه ويقع قلبه فى رجليه وأن مصر باعوها لناتانيا السفيرة الأمريكية، وكان تسليم البضاعة فى بطن الزير.. وكلها إفيهات الفيلم العبقرى "ابن حميدو" أحد كلاسيكيات السينما المصرية.. وفى تقديرى، حتى دون أن أعرف تفاصيل الصفقة التى تمت، أن ما جرى هو حالة وعى كامل "بمصالح البلاد العليا"، وهى العبارة التى ألمحت لها فى المقال السابق.. فصاحب القرار، على الرغم من أنه لم يكلف نفسه عناء شرح أسباب ما جرى، وتفاصيل الصفقة تصريحاً أو تلميحاً، وهذا بالتأكيد خطأ، إلا أننى لا أعتقد أن صاحب القرار فى مصر بكل هذه السذاجة، وكل هذه الهشاشة التى تجعله يتنازل فى لحظة عن كل الثوابت بسبب تهديد هذا الطرف أو ذاك.. ففى تقديرى أنه ليس كل ما يحدث يقال.. لكن هناك مثالاً قريباً أعتقد أنه أشبه بما حدث الأسبوع الماضى لحظة إقلاع الطائرة العسكرية بالمتهمين الأجانب ونشوب أزمة لم تنته حتى لحظة كتابة هذه السطور.. فالصفقة التى تمت الأسبوع الماضى بين مصر والإدارة الأمريكية هى أشبه بصفقة إطلاق سراح الجاسوس الإسرائيلى الأمريكى إيلان جرابيل مقابل بعض المدانين فى "جرائم جنائية" فى سجون إسرائيل وأغلبهم كانوا مهربى مخدرات.. وكان السؤال المطروح فى الشارع وفى المجالس الخاصة والعامة: كيف تبادل مصر جاسوساً إسرائيلياً أمريكياً "بشوية" متهمين ليس منهم واحد فقط متهم بمقاومة الاحتلال أو التجسس ضد إسرائيل..؟! وأعتقد أن صاحب القرار والذى أتم تلك الصفقة، صفقة جرابيل، كان يعى الموقف تماماً، ولم يكن بالسذاجة التى تجعله يبادل جاسوساً ضبط بالجرم المشهود بشوية "......" لامؤاخذة..، فالصفقة ليست تلك التى تمت فى العلن، لكن التى تمت فى السر، وأستطيع أن أقول بملء الفَم إنها كانت فى صالح مصر مائة بالمائة؛ لأن ما حصلت عليه مصر من صفقة جرابيل، والذى لم يعلن عنه حتى الآن، يدخل فى إطار مصالح البلاد العليا.. وخدمة الأمن القومى المصرى.. ولنعد مرة أخرى لصفقة الإفراج عن المتهمين الأجانب وأغلبهم أمريكان، ففى تقديرى أن ما لم يعلن أهم بكثير مما هو معلن، فالإفراج المشروط للمتهمين على ذمة القضية أتاح لمصر العديد من المزايا على الأصعدة العسكرية والسياسية والاقتصادية ستظهر آثارها قريباً جداً.. جداً.. بدليل أنه حصلت انفراجة "مفاجئة" خدوا بالكم "مفاجئة"، فى موقف البنك الدولى وصندوق النقد الدولى من تقديم قروض لمصر لمساعدتها اقتصادياً بعد سفر المتهمين الأجانب، بل وعادت الدول العربية الشقيقة لتؤكد من جديد أنها ستدعم مصر، وأن كل المبالغ التى وعدت بها لدعم الاقتصاد ستقدمها فى القريب العاجل.. ما يهمنى أن أقوله إن مصر لم ولن تركع وأن صاحب القرار لم ينبطح كما يدعى بعض "العميان"، وأن مالم يعلن فى هذه الصفقة أهم بكثير مما أعلن.. لذلك كله.. أستأذنكم أن أسبح ضد التيار وأغرد خارج سرب المنتقدين والمنتقدات والساخرين والساخرات لأوجه التحية مرة أخرى لصاحب القرار المصرى الذى لا يهمه كثيراً مدح المادحين أو قدح القادحين طالما أنه اتخذ القرار بضمير يقظ لصالح الشعب والوطن.. وهو ما سيذكره له التاريخ.