حدثت هذه القصة فى نهاية الثمانينيات، أى منذ ربع قرن من الزمان. فوجئت بأستاذى يقول: يا محمد لقد كنت طوال اليوم فى بالى، كنت أستعيد حديثك فى الأسبوع الماضى عن اللازم والمتعدى وأنا أستمع اليوم إلى أحد مشايخ الإذاعة الجدد ولا أذكر اسمه، ولكنه دكتور من دكاترة جامعة الأزهر الجدد، فقد كان يبدو طوال حديثه فرحاً جذلان بتمكنه من التفريق بين إنزال القرآن من السماء السابعة إلى السماء الأولى، ثم تنزيله على النبى صلى الله عليه وسلم بواسطة سيدنا جبريل عليه السلام. قلت: وماذا فى هذا؟! قال: لا أريدك أن تلجأ إلى الآيات التى ورد فيها النص القرآنى بفعل الإنزال، والآيات الأخرى التى نزل فيها النص القرآنى بفعل التنزيل فأنا استطيع أن أفعل ذلك بنفسى دون حاجة إليك، ولكنى أسألك: ما هو دليل هذا الدكتور على أن الإنزال هو ما حدث من السماء السابعة إلى السماء الأولى، وعلى أن التنزيل هو ما حدث بعد ذلك مما نعرفه، هل عندك فرق نظرى بدون أن تستعمل المعجم المفهرس؟ وتشرح الآيات ببعضها. قلت: نعم. قال: تفضل. قلت: هل تعرف الفرق بين الإقطاع والتقطيع. قال: وهل هما من نفس المادة؟ قلت: نعم من نفس الجذر اللغوى. قال فى استنكار وتمكن يقاربان الإيحاء بحرصه على ازدراء محدثه: وهل عرف العرب القدامى الإقطاع والتقطيع؟ ألم تقولوا فى التاريخ إن الإقطاع لم ينشأ إلا فى أوروبا.. انتهى أستاذى من هذا القول وهو يظن نفسه قد حقق الضربة القاضية. قلت: لن نعدم جذرا لغويا آخر عرف العرب به الإفعال والتفعيل. قال (وكانت له - شأن جيله كما أقول - معرفة جيدة بالصرف): هل تريد أن تقول إن الإفعال هو عمل الشىء دفعة واحدة والتفعيل هو عمله على مراحل أو أجزاء؟ قلت:هو ذاك بالضبط. قال: ولكن التفعيل له معانٍ كثيرة. قلت: وكذلك الحال فى كل صيغة من صيغ الأفعال المتعدية. قال: وهل درس علماء اللغة هذه الجزئيات؟ قلت: نعم درسوها بالخبرة الكلية. قال: وتحت أى مسمى؟ وما هو العلم الذى يعنى بمثل هذا التفكير الحديث؟ وأين الكتاب الذى فيه هذه المعانى؟ قلت: كتب كثيرة فى علم الصرف ولكن أشهرها وأبسطها هو كتاب «شذا العرف فى فن الصرف» للشيخ أحمد الحملاوى. قال: وهل هو متداول؟ قلت: نعم، وقد درّسه أبو رفعت المحجوب لابنه. قال: ومن أدراك؟ قلت: بلدياتك الدكتور هيكل (كان الدكتور أحمد هيكل قد أصبح وزيراً سابقاً فى ذلك الوقت، وبقى عضواً فى مجلس الشعب ورئيساً لإحدى لجانه، ولم يكن رفعت المحجوب قد اغتيل بعد). قال: وكيف عرف ذلك؟ قلت: اختلفا فى شىء فإذا بالمحجوب يحضر «شذا العرف». قال: أتطالعه؟ قلت: بل وأنوى تطويره لو أعطانى الله القدرة والعمر. قال: إذاً فلا تبسطه للدرجة التى تبسط بها كل شىء فى طب القلب. قلت: أوذاك عيب؟ قال: نعم.. وأنت تعرف ذلك ولكنك تصمم على منتهى التبسيط لتكسب. قلت: ولكنى لا أكسب. قال: ومن أدراك؟ قلت: ليس فى يدى شىء مما فى أيديكم. قال: ولكنه فى رصيدك. قلت: أوتمنحنى الأمل؟ قال: بل أعرفك أننى أعرف أسلوبك فى الحياة. قلت: وهل أخفى عليك شيئاً؟ قال: لا.. ولكنك لا تحسب حساب الآخرين الذين يتطلعون إلى إحراز بعض مجدك. قلت: فماذا أفعل؟ قال: تسألنى أنا .. اسأل أحدا من أعمامك (وكان يقصد بالتحديد أستاذين عزيزين علىّ كانا فى ذلك الوقت يشغلان منصبى رئيس الجامعة ونائب رئيس الجامعة). قلت: وماذا جمعهما؟ قال: كنا فى أسيوط وأنت تعرف أنهما كانا من مؤسسى تلك الجامعة، وسألهما أساتذة طب أسيوط عن طبيب شاب يعتقد كل منهما أنه يمكن له أن يرفع شأن جامعتنا فأجابا كلاهما فى تلقائية سريعة: إن المسألة لا تحتاج إلى اعتقاد، ولا إلى تفكير، وإن هذا الطبيب هو حضرتكم. قلت: وماذا كان موقف سيادتكم؟ قال: لم أكن من الذين سئلوا. قلت: لكن كان لك حق التعليق. قال: لكن هذا قد يؤذينى. قال: كيف؟ قلت: حين يجد الأساتذة الشهادة فى حقى تأتى من أساتذة آخرين غير أستاذى الذى أنا صفيه !! قال أستاذى: وهل تعتقد لشهادتى كل هذه الأهمية؟ قلت: أعتقد فى أن غيابها أخطر من حضورها. قال: إذاً فدعنى أبتزك. قلت: ولى الشرف. قلت: ففى أى شىء أبتزك؟ قلت العفو.. لكنى تحت أمرك. قال أستاذى: لقد خالفت طبيعتى فى التهذيب، وعقبت لأساتذة أسيوط علناً بالقول إن رئيسنا ونائبه مخطئان. قلت: العوض على الله. قال: أستاذى هاقد كشفت نفسك وكشفت سوء ظنك. قلت: ولا حول ولا قوة إلا الله. قال: لو صبرت! قلت: افعل إن شاء الله! قال: ألست أنت الذى تقول إنى متأثر بالأسلوب الإنجليزى not only but ؟ قلت: نعم. قال: أفهمت إذاً ما قلته بعد «لكن»؟ قلت فى تخابث: ومن أين لى أن أفهم بعد كل هذا التعذيب أن هناك « لكن»، وأن هناك «ما بعدها». قال: ألم يخبرك أحد أنى قلت لهم إنهما يظلمانك إذا صورا مجدك الموعود فى حدود جامعتنا فحسب.. وأنى أبصره أكبر من ذلك بكثير؟ قلت: فما بالك لا تطير إذاً؟ قلت: أريد التزود بالوقود. قال: أما يكفيك هذا كله؟ قلت: إنى فى حاجة أيضاً إلى طائرة، لا إلى وقود فحسب. قال: وهذا ليس فى وسعنا. قلت: وما العمل؟ قال: تستعيد مرحلة الإنسان الطائر لتحقق بها مجدك أو سعادتك بمجدك. قلت: لكن هذه المرحلة لم تعرف فى التاريخ البيولوجى للإنسان. قال: هذا مثل جديد على ما أسميه أنا العلم النافع والعلم غير النافع، بينما تعتقد أنت أن كل العلوم نافعة. قلت: ألست أنت المعجب بفكرة التطور على نحو ما صاغها دارون؟ قال: لا يكون المرء بيولوجيا ما لم يعجب بها على حد تعبيرك. قلت: فلم تستنكر التفكير فى وجود مرحلة من التطور أو عدم وجودها؟ قال: لا أستنكر التفكير.. ولكنى أستنكر أن يكون هذا التفكير جزءاً من مقرر دراسى أو علمى. قلت: فكيف يتعلم الباحثون التفكير؟ قال: أتظن أن هذه الطريقة تعلمهم التفكير؟ قلت: تعلمهم محاولته. قال: خذ الحكمة من فمى، وأعلم يا محمد أنها لا هى ولا غيرها من الطرق تعلم الباحث التفكير. قلت: لن تصدقنى إذا قلت لك إن العالم يولد عالماً، وإن الباحث يولد باحثاً، وإن المفكر يولد مفكراً. قلت: وما جدوى التفلسف؟ قال: هو كما قلت لك ولا تزال تأبى تصديقى: علم غير نافع. هكذا ظل أستاذى على عقيدته اليقينية فى أن هناك علماً نافعاً وعلماً غير نافع، وقد زاد إصراره على هذه النظرية رغم أنى كنت اعتقدت أنه عدل عنها يوم حوارنا عن تصميم الآلة الكاتبة وجدوى وضع الحروف تبعا لمعدلات تكرارها، لكنى اكتشفت أن هذا الاقتناع كان اقتناعاً بجزئية، ولم يكن اقتناعاً بالعدول عن مبدأ أو عقيدة. وحدث ما هو أطرف من ذلك بكثير، إذ حدثت مناقشة ذات مرة بينى وبين أستاذ متوسط على مسمع من أستاذى وكنت أدافع عن إحدى الزميلات، وأدفع عنها ظلما اشتهر به ذلك الأستاذ الذى لم يكن يمانع فى الظلم، وأردت إشراك أستاذى معى فى هيئة الدفاع فقلت: إن زميلتنا هذه أكثرنا جميعاً إيماناً بالأفكار العملية لأستاذنا الكبير.. يكفى أنها تتبنى نظريته فى العلم النافع والعلم غير النافع. تهلل وجه أستاذى وسألنى: أحقا هذا الذى تقول؟ قلت: نعم. قال: ومع هذا تدافع عنها؟ قلت: نعم فإنى محب للموضوعية مهما كانت العقيدة السابقة عليها، ولا أكره مخالفى إذا كانوا موضوعيين، بل أحبهم وأسعى إليهم، وأنا الكسبان. قال أستاذى: لم أكن أعلم أن لها هذا الميل، مع أنى أذكر مديحك لها فى حفل حصولها هى وزملاؤها على الدكتوراه، وسأبداً فى مراقبتها عن كثب. ومن حسن الحظ أن المراقبة أسفرت عن إيمان الأستاذ بزميلتنا وتوثق علاقة أستاذيته لها، وثقة مفرطة بها، وعطف أبوى لا نهاية له، مع أنها لم تكن تلميذة مباشرة له فيما مضى من الزمان، وقد قابلت زميلتنا كل هذا بكل ما كان فى وسعها من وفاء وولاء.