قال لى أستاذى ذات مرة فى نهاية حوار طويل: هل تعرف يا محمد أنى مع تقديرى لكل حديثك اعتبر أنك تهتم أحيانا بما يمكن أن يسمى بالعلم غير النافع، بل إنك ربما أضعت وقتا ثمينا فيه. قلت: مثل ماذا؟ قال: لا أقصد محاورتنا اليوم فهى كلها منافع وفوائد. قلت: شكرا. قال: لا شكر على اعتراف بالحق فكلها منافع فعلا. قلت: فماذا تقصد بالعلم غير النافع إذا؟ قال: أعطيك مثلا.. كنت فى الأسبوع الماضى أطالع كتابا من كتب تفسير القرآن الكريم، فوجدت أنهم قد حسبوا تكرار كل حرف من حروف اللغة العربية فى القرآن الكريم.. فبماذا يجدى هذا غير الألاعيب التى نسمع عنها الآن من سر العدد كذا، وما يسمونه بالإعجاز العددى للقرآن الكريم. قلت: لا يا سيدى، إن هذا من أكثر الأمور إفادة للبشرية. مال الأستاذ برأسه للخلف وكأنه صعق لهذا التقرير الحاسم وقال بطريقته: احك لى كيف كان ذلك؟ وكانت هذه الجملة من لوازمه المفضلة. قلت: هل تعرف الآلة الكاتبة؟ قال: بالطبع. قلت: هل تعرف ترتيب الحروف عليها؟ قال: لم أفكر فى أن اشتغل مكان السكرتيرة. قلت: أنت تعرف بالطبع أنى لم أقصد هذا. قال: فماذا قصدت؟ قلت: هل حانت منك التفاتة ذات مرة إلى ترتيب مفاتيح الآلة الكاتبة الكهربائية وأنت جالس إلى جوار من يكتب لك الامتحان فى مكتب الآلة الكاتبة بالمنتزه عندما يتركك بعض دقائق ويقوم إلى دورة المياه أو إلى أى شأن من الشئون، بينما أنت ملازم للمكتب حفاظا على سرية الامتحان. قال فى محاولة للتعبير عن الاندهاش من معرفة محدثه بمكان «مطبعته السرية» حتى هذه الجزئية تعرفها! قلت: أنا لا أعرف المطبعة السرية فقط، ولكن العصفورة التى تعمل لحسابى أخبرتنى عما تفعله فى أثناء وجودك فيها من العبث الهادئ بلوحة المفاتيح. ضحك وقال: حدث فعلا أكثر من مرة أنى كنت أتأمل هذا الترتيب ولكنى لم أشغل بالى به. قلت: كنت متأكدا من أنك تأملته. قال: وماذا بعد التأمل؟ قلت: تعرف حضرتك أن الحروف مرتبة فى ثلاثة صفوف. قال: بل هى أربعة يا محمد. قلت: الرابع العلوى للأرقام وليس للحروف. قال: نعم.. وما الفارق بين الصفوف الثلاثة؟ قلت: إن لوحة مفاتيح الآلة الكاتبة وكذلك لوحة مفاتيح الكمبيوتر من بعدها قد وزعت الحروف على الأصابع وجعلت أكثر الحروف تكرارا فى صف الارتكاز بحيث لا تمتد إليها الأصابع لمسافة طويلة، مما قد يعوق سرعة الحركة، إنما تكون واقعة تحت الأصابع مباشرة، وبالطبع فإن هذا الترتيب لم يحدث على هذا النحو الذكى إلا بناء على إحصاءات تكرار الحروف فى الاستخدام اللغوى. قال أستاذى فى هدوء شديد كأنه هدوء ذلك المؤمن المسن البسيط، الذى يستمع إلى دورس العصر فى المسجد: وفوق كل ذى علم عليم!! ومَن علمك هذا؟ قلت: قرأته فى كتاب أو فى مدخل فى إحدى الموسعات العلمية عن جهاز «الآلة الكاتبة». قال: بأية لغة؟. قلت: أغلب الظن أنه بالإنجليزية. قال: أوليس هذا متاحا باللغة العربة لأقرأه كما قرأته أنت؟ قلت: لو كان متاحا لكنتم سيادتكم أول العارفين به. قال فى تخابث محبب: ولكن يبدو أنك تستغل حقيقة ما اعترفت لك به من أنى لا أقرأ بالإنجليزية إلا الطب (وكان فى الواقع قد حدثنى بهذا المعنى قبلها بشهر أو شهرين، وأشار إلى أنه يتمنى لو واظب على قراءة مجلة أسبوعية باللغة الإنجليزية، وقلت له إن هذا ليس صعبا ولا ينبغى أن ينتظر حتى يجعل هذا من عاداته الروتينية، إنما يكفيه أن يأخذ بالمبدأ القائل إن ما لا يدرك كله لا يترك كله). قلت: أوتظننى ساذجا حتى أرد على سؤالك فاعترف ضمنا بأنى أخطئ فى حق سيادتكم؟ قال بعطف: ولم لا إذا كنت تفوقنى بالفعل فى كثير من الأمور؟ قلت: وأين إنجليزيتى من إنجليزيتك مفردات ونطقا؟ قال: ولكنك تستعملها أضعاف ما استعملها. قلت: إنه استعمال المضطر إلى كسب العيش وأداء الواجب، كما الحوذى يقود الحصان ليل نهار، بينما أنت تمارس الفروسية ممارسة النبلاء. قال: اتصرفنى عن الاعتراف بجهلى وتستغل مهارتك البلاغية بأن تضفى علىّ ما ليس فىّ. قلت: بل إنى أنفى الجهل عن سيادتكم وأثبت ما هو حق، ولا آتى بما ليس حقيقا. قال: ولكنك تجيد الصياغة والبلاغة إلى درجة كبيرة. قلت: إن الصياغة لا تستطيع أن تنفى جهلا ولا أن تثبت فضلا، ولكن التواضع هو الذى قد يوحى بالنقيض. قال: وهل يحتاج جهلى إلى دليل بعد هذا الذى أوضحته أنت الآن؟ قلت: أفجهل جزئية يكفى لأن نصف مَن جهلها بهذا الوصف؟ قال: ولكنه (يقصد نفسه) جاهل فعلا بها. قلت: أفيجوز لك أن تستعمل فى وصف نفسك الفعل اللازم مكان الفعل المتعدى؟ قال: إنى أعرف اللازم والمتعدى معرفة جيدة، لكنى لم أكن أتصور أن لهذا التقسيم النحوى بعدا فلسفيا إلا الآن، ولكن خبرتى هل له هذا البعد حقا أم أنك أوهمتنى بهذا كعادتك فى سحر ناظرى؟ قلت: إنى أرى وأعلن رأيى فى وضوح أن النحو العربى مكون أساسى من مكونات الفلسفة العربية. قال: إلى هذا الحد؟ قلت: نعم. قال: وما علاقة الفلسفة بالنحو؟ قلت: تعريفها لا يتيح للنحو أن يهرب منها. قال: فإن هرب؟ قلت: يعود. قال: ومَن يعيده؟ قلت: مَن تأتيه الفرصة. قال: أظنك تتحدث عن نفسك. قلت: إذا أعطانى الله عمرا. قال: وماذا أنت فاعل بالفلسفة أيضا؟ قلت: أضم إليها أصول الفقه، وأصول النقد العربى القديم. قال: أويتركك أهل هذه العلوم؟ قلت: ربما ساعدونى. قال: لا أظن. قلت: فإن حدث. قال: أكون أول الفرحين لك وبك. قلت: هل أدلك على مَن علمنى هذا؟ قال: إنما هى توريطة جديدة، وستنسب إليه فضلا لا أدعيه ولا أعرفه. قلت: أيصل بك التواضع إلى أن تنكر أنك دائما تسألنى: وما فلسفة فلان فى تشخيصه؟ وما فلسفة علان فى وصف هذا الدواء؟ قال: إنى أفعل هذا كثيرا. قلت: ألست أنت بهذا الذى علمتنى معنى واسعا للفلسفة؟ قال: إذا كان الأمر كذلك، فبما ونعمت، لكنك تعرف أنى استخدم اللفظ بمعناه المحوّر أو المجاز، ولم أكن أتصور نفسى على نحو ما صورتنى الآن صاحب إسهام فى تعريف علم الفلسفة. قلت: إنما هو إعادة تعريف إن نجحنا ووفقنا. قال الفضل فى إعادة التعريف لا يقل عن وضع التعريف. قلت: نسأل الله التوفيق، ورضا أساتذتنا، وألا يعوقونا. قال: ماذا جاء بنا إلى هذه النقطة؟ قلت متخابثا: كنا نبرأ بك عن الجهل الذى وصفت نفسك به حين جهلت جزئية ما. قال: غلبتنى، أشكرك لأننى أنا المستفيد لأنك نفيت عنى الجهل الكلى وجعلته جهلا بجزئية فحسب. عندئذ وصلت إلى مرحلة من الانتشاء، لأنى خرجت مرة بعد أخرى من مطبات متتابعة كانت كفيلة بأن توقع الإنسان فى سوء التهذيب، ومن حفرات متتابعة كانت تدفع إلى قلة الذوق، فضلا عن أننى فرضت نفسى ومعرفتى بما فيه الكفاية.