الكلام عن محمود امين العالم في شقه الفكري والفلسفي والسياسي والتنويري لا ينفد، واحري به مفكرون كبار تناولوا تجربته الثرية وفكره الرفيع، لكن الكلام عن شقه الانساني هو ما يستهويني هنا ما دمت انا الباحثة عن الجمال في شتي مكامنه كانت "نهضة مصر" طلبت مني مقالا في باب "قلم زائر" احتفاء بمرور عام علي انشاء صفحتها الثقافية. ولما قد تركت لي الجريدة محور الكتابة مشرعا، ولما كانت كثرة البدائل امتحانا صعبا يزيد من ابيضاض الورقة وتعثر القلم، ولما كان الامر احتفاء بالثقافة التي هي عطر الروح وألقها فقد آثرت ان اولي شطري صوب الجمال الخام بوصفه ملاذنا حين تضيق بنا السبل، وكذا حين تنفتح البدائل علي مداها فنحار: عم نكتب؟ وبالفعل، وقع اختياري علي رمزين من ارقي رموز الجمال وارفعها، من وجهة نظري الخاصة. بعثت بمقال يضم صورة قلمية لكل من: فيروز، اللبنانية، ومحمود امين العالم، المصري. وقلت في المقال انني اري في كليهما قطعة صافية من جمال الله، نشر المقال يوم الثلاثاء 29 ابريل، وخرجت كلمتي عن فيروز كاملة بيضاء من غير سوء سوي ان الجزء الاعظم من شهادتي عن العالم قد سقط من المقال، ربما لسبب تقني يخص الديسك بالجريدة او ما شابه وحين اخبرت بذلك الصديق الاستاذ الكاتب محمد الشبه رئيس التحرير، انزعج وطلب مني ان اعيد ارسال المقال ليعاد نشره كاملا غير منقوص، قائلا ان محمود امين العالم قيمة كبري ينبغي الاحتفاء بها بيننا، وكذا ينبغي الاحتفاء بانفسنا كوننا عاصرنا مثل هذه القامة المصرية السامقة، وانا اذ اشكر الشبه علي رقيه، اعيد نشر شهادتي في محمود امين العالم. هذا الرمز الجميل. يحدث هذا، وشكرا لفلسفة المصادفة للصخرة سبعة أبواب يحدث ان صبيا صغيرا اسمه محمود، من اسرة رقيقة الحال تسكن احد الاحياء الشعبية القديمة بالقاهرة هو "الدرب الاحمر" ويحدث ان يفصل الصبي من مدرسته لانه لم يسدد المصروفات، التعليم في عشرينيات القرن الماضي بمصر الملكية لم يكن مجانيا قبل ثورة يوليو اطبقت الام كفها حول كف صغيرها ومشت به الي مطبعة في الحي ليعمل في صف الحروف وتجميع الكلمات، سرعان ما يتعلم الصبي الذكي الحرفة وتبدأ ملامح مستقبله ترتسم، لكن اعتباطية المصادفات، او عبث الاقدار، حسب نجيب محفوظ لا، بل الادق ان ذكاء المصادفات وفلسفتها وانتقائيتها وتفوقها الحدسي كان لها رأي مخالف بشأن الصبي الواعد محمود، اذ رسمت لمستقبله خطة اخري اكثر منطقية واكثر وعورة في آن، يحدث ان يمرض فؤاد الاول ملك مصر آنذاك بمرض خطير ثم يحدث ان يشفي بمعجزة ما، او بمصادفة ما. فيقرر ذات لحظة كرم مباغتة ان يدفع مصروفات التعليم لكل اطفال مصر، هذا العام. ويعود الصبي محمود الي مقعد المدرسة ليكمل تعليمه الذي كاد يحرم منه، ويدرج في سني الدراسة حتي ينال ليسانس الفلسفة من جامعة فؤاد الاول، تحدث مثل هذه المصادفات في اوج فلسفتها ورقيها ونخبويتها، التي لا تخطيء، لكي تحظي مصر الجميلة بمفكر كبير ومناضل سياسي رفيع الطراز اسمه محمود أمين العالم. وهنا، ليس من قبيل المصادفة ان تكون رسالة الماجستير التي قدمها بعد تخرجه بعنوان "فلسفة المصادفة" وفيها يحاول العالم ان يربط بين المصادفة الموضوعية من حيث مدخلاتها الفيزيائية وقانونها الرياضي تبعا لنظرية الاحتمالات، وبين دلالاتها الفلسفية والسوسيولوجية، من اجل ان نعيد التفكير علي نحو مغاير في كل مشهد يحدث امامنا، ماذا لو ان رجلا ما يسير في شارع ما، وتسقط علي رأسه شرفة ما، فيموت؟ هل هذه سلسلة مصادفات؟ ام ان المصادفة هي الا يسير في الشارع هذا عينه، والا تسقط الشرفة عينها عليه، في اللحظة تلك بعينها؟ فحياتنا سلسال من المصادفات، او ما نحسبه مصادفات، لنقل انها ترتيبات علوية محكمة تأتينا في ثوب المصادفة، تغير من مصائرنا وتعيد ترتيب الاوراق في شجرة الاقدار البديلة التي ترسم مستقبلنا، مصادفة فانتازية غيرت مسار حياتي ايضا، كانت امي تعدني لدخول كلية الطب مثل شقيقي الوحيد الذي يكبرني، وفي عطلاتي المدرسية كان يصحبني معه الي الكلية لاتعود علي جو الطب والمحاضرات. وذات يوم قال سندخل المشرحة لدراسة "الكلي البشرية" قلت لا، اخاف مرأي الدم فقال اطمئني لا دم هناك. لا دم! كيف؟ حتما ساري جثثا ودماء، سأري الموت، لكن المفزع انني لم ار جثة ولا دما، لم ار الموت، رأيت ما هو ابشع، هو اخي يفتح صندوقا يمد شوكة معدنية كبيرة ويخرج شيئا لم اتبينه اول الامر، ثم قال انه "جذع" امرأة، دون رأس ودون ساقين، وبدأ في فتح الجسد، بالمشرط لدقائق كأنها الدهر، احاول ان اربط بين ما اراه وبين تصوري عن الجسد البشري فلا اقدر، السيدة نامت في حامض الفورمالين سنوات حتي غابت عنها معالم البشرية. البشرة متجعدة متغضنة رمادية اللون زرقاء، واكتشفت لاول مرة ان ثمة ما هو ابشع من مرأي الموت، الموت القديم، الضارب في الوقت، وكرهت الطب والاطباء، وما شعرت الا والعالم يدور والارض تميد تحت قدمي ولم افق الا وانا في سريري اصرخ في وجه امي: حولي اوراقي من قسم العلوم الي الرياضيااااات! سأدخل الهندسة وكانت المرة الاولي التي اقول فيها "لا"، وكتبت قصيدة حول رأس هذه المرأة الذي لم اره ابدا ولن اراه، الرأس المنزوع الغائب. الرأس الذي رسم مستقبلي وقرر لي نوع دراستي، رأس غائب غير موجود نسخ ونسف قرارات رأس امي العنيد الصعب! وفي اسكتلندا جسر يقطع عرض نهر تاي ويصل بين مدينتي فايف وداندي في 28 ديسمبر العام 1879 ضرب الجسر اعصار عنيف وحطمه، وسقط القطار من فوقه ليغوص الي الابد في قاع النهر ويغرق المسافرون جميعهم الا واحدا. ظل محتفظا بتذكرته من ادنبره الي داندي بعدما فاته القطار لسبب ميتافيزيقي غامض! كارل ماركس. والكلام عن محمود امين العالم في شقه الفكري والفلسفي والسياسي والتنويري لا ينفد، واحري به مفكرون كبار تناولوا تجربته الثرية وفكره الرفيع، لكن الكلام عن شقه الانساني هو ما يستهويني هنا ما دمت انا الباحثة عن الجمال في شتي مكامنه وتقدم لنا هذه القامة الفكرية السامقة، محمود امين العالم، نموذجا فريدا في البساطة والتواضع ورقي الخلق، فتراه في تجواله اليومي يكلم البسطاء من العامة يسألهم عن احوالهم ويستخبر اراءهم في مستجدات احوال الوطن، يسأل البواب عن ابنته ويداعب حفيدته ويربت علي كتف سائس الجراج: ازاي صحتك دلوقت؟ تمام؟ عال عال. واسأله انا: هل يعرفون من انت؟ هل يعرفون انهم يقطنون علي مقربة من محمود أمين العالم المفكر الكبير؟ يقول يعرفون ان اسمي محمود وخلاص، وهو المطلوب! يقول المثل الانجليزي: EMPTY VESSELS MAKE THE MOST NOISE، ما يعني ان الاواني الفارغة وحدها تصدر الصخب الاعلي، فأنت ان خبطت بملعقة معدنية علي جدر اناء معدني، لن تحدث ضوضاء ولا ازعاجا كثيفا الا اذا كان الاناء فارغا، اما الاناء الممتليء فسيحفظ هدوءه وصمته الرفيع، لانه ممتليء والكلام اذ يصح في المستوي الفيزيائي يصح بامتياز في المستوي الفلسفي والفكري. والانساني ايضا. القاعدة تنطبق علي البشر مثلما تنطبق علي الاواني، تجد كاتبا مبتدئا لا يزال يخط خواطر ساذجة ويخطيء في الاملاء والنحو يتعامل مع الناس بوصفه "الاخير زمانه" الآتي بما لم تستطعه الاوائل. بل ويظن ان عدم اقبال الناس عليه مرده ان كتابته اعلي من مستوي المتلقي! وفي المقابل تجد الكبار يتواضعون ويتباسطون حتي امام الصغار، لان المرء كلما ازداد علما ايقن ان ما يجهل اكثر جدا مما حصل. جاءني كاتب شاب مازال يتلمس خطي الكتابة في اولي مراحلها كان ذلك في المجلس الاعلي للثقافة بمصر قبل اعوام، وطلب مني ان اقدمه الي العالم الذي كان يجلس علي مقربة، قال ان كل ما يرجوه، وحسب، هو ان يصافحه ويعرب له عن حبه وفرحه بلقائه وجها لوجه، فقلت اذهب وحدك، سوف يرحب بك فهو جميل وغير متعال، الحكاية مش محتاجة وساطة يعني! فأبدي خجله، والح علي احتياجه الي "وسيط". وذهبنا للعالم وقلت: هذا الشاب الجميل يود ان يصافحك، فما كان من الاستاذ الا ان وقف ومد يده قائلا: انا اسمي محمود امين العالم، وابتسامة رائقة باشة تكسو وجهه تليق بنبي، قلت يا استاذ لا تعرف نفسك! فالمعروف لا يعرف، وتقديمك نفسك اهانة لنا كونك رمزا من رموز مصر، أبعد كل ما قدمت لنا وللوطن من فكر وعمر وجهد وكفاح مازلت محتاجا ان تعرف نفسك؟! فابتسم بحياء وقال: اسكتي يا بنت وبطلي بكش، هو انا عملت حاجة! حدثني انه ايام اعتقالات 59 كان السجان يجلده بالسوط صباحا، والعالم يجلس في المساء الي ذلك السجان ذاته ليعلمه ويمحو اميته!! فهتفت مندهشة: كيف؟ قال: عادي، كل منا يؤدي عمله! هو يجلدني لان قادته افهموه انني عدو الوطن والدين، ومن ثم فواجبه ان يعاقبني لانه يحب الوطن ويحب الدين، وانا اقوم ايضا بدوري التنويري معه فاعلمه، ذلك ان واجبي نحو وطني ان انور ابناءه ما وسعني ذلك فانا افهم جيدا ان محنة هذه الامة تكمن في وعيها، ودور كل مثقف ان يبني وعي الناس، قبل ان يحاسبهم علي اخطائهم يقدر واحد من نسيج محمود امين العالم ان يغفر لسجانه وجلاده، هو لم يكظم غيظه ولم يعف عن الناس وحسب كما تأمر الاية القرآنية، بل كان من المحسنين كذلك مع من آذوه وعذبوه، والحق ان العالم حين جلس الي السجان وراح يعلمه الابجدية والقراءة، فيما خطوط السياط تقطر دما من ظهره، ومن روحه، لم يكن نبيا ولا مسيحا متسامحا، بل كان مثقفا حصيفا يعرف اين يكمن عدوه، عدوه لم يكن ذلك الجاهل الذي يحمل سوطا في يده، بل عدوه، وعدو الوطن باكمله، هو الجهل ذاته، ولذلك راح يحاربه. ثم يأخذه السجان الي حيث الصخور الضخمة ويقول له: كسر يا مسجون! للصخرة سبعة ابواب، في واحد منها فقط تكمن نقطة الضعف، ويجرب العالم فيخفق في كسر الصخرة، لا يجد الباب السابع، فيسمح العالم للسجان "الجاهل" ان يعلمه كيف يحدد مكمن الضعف في الصخرة!