فى كل يوم.. بل فى كل دقيقة.. يولد من يولدون، ويرحل عن عالمنا راحلون.. فى مختلف أنحاء الأرض يولد أطفال كثيرون، لكن لا أحد يسمع أو يعرف شيئا عن ميلاد أبناء الفقراء والبسطاء والمغمورين، أما أبناء أصحاب الجاه والسلطان والنفوذ، فإن وسائل الإعلام تتحدث عنهم، حتى وهم فى بطون أمهاتهم، وقبل أن يفتحوا عيونهم للنور، ويطلقوا صرخة الميلاد. فى الخامس عشر من يناير سنة 1918 ولد أطفال كثيرون من مختلف الألوان والأجناس والأديان فى مختلف أنحاء الأرض، ومن بين هؤلاء الأطفال ولد طفل عربى - مصرى أصيل، اختار له أبوه عبدالناصر حسين اسم «جمال».. ولأن «جمال» ابن واحد من الموظفين البسطاء، فإن قليلين هم الذين سعدوا بميلاده، وهم أفراد عائلته وأقاربه ومعهم الجيران، أيام كان لكلمة «جيران» معنى!. من 15 يناير سنة 1918 أعود إلى 28 سبتمبر - أيلول سنة 1970 حيث يتجلى الفارق الواسع الشاسع ما بين ميلاد الطفل «جمال» ورحيل الزعيم «جمال»، فإذا كان قليلون - كما قلت - هم الذين سعدوا بميلاد الطفل جمال عبدالناصر حسين، فإن العالم كله من أقصاه إلى أقصاه عرف نبأ رحيل الزعيم العظيم.. وجرى ما جرى مما عايشناه وأشرت من قبل إليه.... مأتم كبير.. كبير.. خيم بأجوائه السوداء على أمتنا العربية جمعاء.. الأعداء والأصدقاء، على السواء، كانوا فى ذروة الدهشة المطبقة عليهم حين عرفوا هذا النبأ.. على سبيل المثال، فإن المرأة الصهيونية جولدا مائير رئيسة وزراء الكيان العنصرى الصهيونى قالت - وقتها - إن هذا النبأ مجرد شائعة سخيفة.. ورفضت أن تصدق هذا النبأ فى البداية. فيما يتعلق بى هنا أود أن أشير إلى أن أبى الغالى قد ولد بعد شهر وثلاثة أيام من يوم ميلاد الزعيم، ومن هذا المنطلق فإنى أحس أن جمال عبدالناصر أب معنوى لى، بل أب معنوى لكل أبناء جيلى، وأعتقد أن من حق الإبن أن يتحدث قليلا مع أبيه، لا أن يتحدث عنه.. جمال.. يا أبى الغائب.. أنت الثورة العربية وقد تجسدت فى إنسان عربى أصيل ونبيل.. ألمْ تكن أنتَ أمةً فى فرد؟.. هذا ما صوره - بعد رحيلك - شاعر العروبة الأكبر محمد مهدى الجواهرى، حيث قال: قد كنتَ شاخصَ أمة، نسماتها وهجيرها، والصبح والإمساءَ ألقت عليكَ غياضها ومروجها واستودعتك الرمل والصحراءَ كنتَ ابن أرضك من صميم ترابها تعطى الثمار، ولم تكن عنقاءَ ??? حقا.. كنت ابن أرضك.. إلى بنى مر فى صعيد مصر انتميت، وفى الأسكندرية نشأت وشببت، ومن قلب القاهرة انطلقت، لا من أجل مصر وحدها، إنما من أجل أمتك العربية كلها، وكانت البداية الحاسمة لهذا الانطلاق مع انبثاق فجر يوم 23 يوليو - تموز سنة 1952 الذى توشك أن تنقضى عليه الآن ستون سنة بالتمام والكمال. منذ ذلك اليوم التاريخى المجيد، عايشتَ ما عايشتَ مما عشناه معك.. فرحنا مع فرحتك.. بكينا مع دمعتك.. فرحنا مع ميلاد أول وحدة عربية فى تاريخنا العربى الحديث بين سوريا ومصر.. فرحنا بدولة الوحدة - الجمهورية العربية المتحدة، بإقليميها الشمالى والجنوبى.. تلك الدولة - التى أعلنت أنت قيامها فى الأول من فبراير - شباط سنة 1958وانتخبتَ رئيسا لها فى الحادى والعشرين من نفس الشهر ونفس السنة.. فرحنا مع ميلاد دولة الوحدة وقتها.. أتذكر الآن أنى كنت طالبا فى المرحلة الثانوية، وانطلقت مع زملائى لنسعد بطلعتك وأنت تطل علينا من إحدى شرفات قصر عابدين.. آه ما أسعد الأبناء - وقتها - وهم يتمعنون ولو من بعيد فى قسمات وجه الأب الذى يحقق لهم ما يتمنون.. فرحنا وقتها.. ثم بكينا عليها، بكينا على انفصام الوحدة بالانفصال الغادر الذى وقع يوم 29 سبتمبر - أيلول سنة 1961، وما زلت إلى اليوم كلما تذكرت ذلك اليوم الحزين، أتذكر نبرات صوتك الجياشة بالألم، أتذكر نبرات صوتك بكل وضوح، كأنى أسمعها الآن، وأنت تقول: «إن طعنة الصديق أشد إيلاماً من طعنة العدو..» عشنا معك - يا أبى - وأنت تخوض أشرف المعارك، عشنا معك وأنت تؤمم شركة قناة السويس يوم 26 يوليو - تموز سنة 1956، تلك الشركة الاستعمارية التى لم تكن - كما قلت أنت - دولة داخل الدولة، وإنما دولة فوق الدولة.. وعشنا معك، وأنت تبنى - بسواعد أبناء مصر وطاقاتهم وبمساندة الاتحاد السوفييتى ومساعدته - السد العالى الذى حمى - فيما بعد - مصر من الجفاف الذى أصاب دولا إفريقية عديدة. عشنا معك يا جمال وأنت تساند الثورة فى كل أرض عربية ضد الغزاة وضد الطغاة.. العراق يشهد وما زال أبناؤه يرددون «بغداد يا قلعة الأسود» منذ 14تموز سنة 1958 إلى الآن، برغم كل ما أصاب هذا الوطن الغالى من مصائب ومن محن .. ثورة المليون شهيد فى الجزائر تشهد.. جبال اليمن وصنعاء وكل الأرض اليمنية تشهد.. عشنا معك - يا أبى - وأنت تواجه الاستعمار القديم بقطبيه بريطانيا وفرنسا.. وعشنا معك وانت تواجه أخطبوط الاستعمار الجديد.. الولاياتالمتحدة الأميركية.. إمبراطورية الشر التى تحاول الآن أن تهيمن على كل دول العالم، بعد غياب الاتحاد السوفييتى الذى كان يكبح جماحها ويكسر شوكة غرورها الاستعلائى العنصرى. عشنا معك صمود بورسعيد أيام العدوان الثلاثى - البريطانى، الفرنسى، الصهيونى سنة 1956، وعشنا معك ما جرى خلال نكسة يونيو - حزيران سنة 1967، وعشنا معك، وأنت تبنى - من جديد - جيش مصر العربية خلال حرب الاستنزاف المجيدة التى استشهد خلالها كثيرون واستشهد خلالها قائد عظيم هو الشهيد عبدالمنعم رياض.. وعشنا معك وأنت تنطلق باستمرار إلى جبهة المواجهة مع العدو الصهيونى، لكى تطمئن بنفسك على استعدادات أبنائك الجنود، ولكى تكون هذ ه الحرب - حرب الاستنزاف المجيدة، ممهدة لتحرير الأرض كما خططت أنت وقدَّرت، وبالفعل فإن حرب الاستنزاف هى التى مهدت - بعد غيابك - لحرب أكتوبر سنة 1973، وهى - بالتأكيد - حرب مجيدة، لكن السياسة الحمقاء والخرقاء أفرغتها من مضمونها فيما بعد، فتغير ما تغير على الساحة العربية كلها، وهو تغير إلى الوراء، تغير استطاع أن يفرض سطوته - لبعض الوقت - من خلال تخدير الجماهير بأوهام الرخاء بعد أن يحل ما يسمى ب «السلام» بين أقطار أمتنا العربية وبين الكيان الصهيونى العنصري!. «يا جمال.. يا نور العين.. سايب مصر ورايح فين؟..» هذا الهتاف الحزين الذى انبثق من قلوب البسطاء، هو التعبير الشعبى العفوى الذى صوّر أجواء الفجيعة بعد غيابك مباشرة، وقد انطلق هذا الهتاف الصادق والبسيط قبل أن يكتب أى شاعر عربى بيتا أو سطرا واحدا، وهكذا جاء الشعراء، بعد البسطاء، فها هو ذا نزار قبانى - بكل حبه لك - قد جعلك «آخر الأنبياء» وها هو ذا صالح جودت - برغم انقلابه النثرى لا الشعرى عليك فيما بعد - قد جعل الطائرة التى حملت جثمانك الطاهر «بُراقاً فى السماء»!. مقابل من جعلوك - يا أبى - «أسطورة» هناك آخرون من الشعراء أدركوا - بكل حبهم لك - أنك إنسان، بكل ما تحمله كلمة «إنسان» من جمال، وهذا ما أكده محمود درويش حيث أوضح تماما أنك «الرجل ذو الظل الأخضر» فى إشارة منه إلى «الخضرة» التى بسط السد العالى لونها الجميل بصورة أعمق وأكبر. هنا يلتقى محمود درويش - دون قصد واتفاق - مع محمد حسنين هيكل الذى كتب فى ذكرى الأربعين مقالا مهما نشره فى «الأهرام» بعنوان «عبدالناصر ليس أسطورة» ويذكر الكاتب الكبير فى كتابه «لمصر.. لا لعبدالناصر» الدافع الذى حدا به لأن يكتب هذا المقال، حيث قال: «.. عبدالناصر ليس أسطورة.. أبديت فيه خشيتى من استغلال المستغلين لقصة البطل فيه والرمز، وعبرت عن مخاوفى من تحويل تراثه إلى كهنوت غيبى جامد، بينما هو فى الحقيقة تجربة إنسانية زاخرة، قابلة للحياة والنمو والتطور..» ها أنذا أبدو مرتاح النفس ولو قليلا، لأنى كنت أتحدث معك، لا عنك يا أبى، والآن وفى أجواء الذكرى الرابعة والتسعين لإطلالتك على أرضنا العربية يوم 15 يناير 1918 فإنى أشعر أنك لم تغب عنا ولم ترحل ، فقد رأيتك الزعيم العظيم الذى يتجدد ليرافق كل ثورة جديدة ضد القهر والظلم ، وإذا كان المتلونون الذين يتاجرون بالدين قد حاولوا اغتيالك حيا فى حادث المنشية الشهير بالأسكندرية سنة 1954 فإنهم حتى الآن ما زالوا يحاولون اغتيالك معنويا ، ولكن هيهات فأنت تسكن فى كل قلب من قلوب الشرفاء من أبناء العروبة .. تحية لروحك يا جمال ، ياأيها الزعيم والأب والإنسان .