يقتضى الإنصاف أن نفرق ونحن نناقش قضية تمويل الجمعيات الأهلية المصرية بين موقف هذه الجمعيات قبل 25 يناير.. وموقفها بعد 25 يناير. قبل 25 يناير كانت هذه الجمعيات الأهلية تواجه حربا شرسة من النظام.. وكان طبيعيا ومنطقيا أمام قيام الدولة بضربها تحت الحزام أن ترد هى أيضا بالضرب تحت الحزام.. كان هدف هذه الجمعيات تغيير النظام، وكان مستحيلا أن تلعب هذه اللعبة بالقواعد التى وضعها النظام!.. فى هذا الاطار يكون مفهوما أن تحصل هذه الجمعيات على تمويل أجنبى بطرق غير مشروعة.. بعد 25 يناير لم يعد هناك أى مبرر لهذه الطرق غير المشروعة.. الأهداف تحققت والنظام سقط وتغير ولم تعد هذه الجمعيات فى حاجة للجوء إلى أى طرق غير مشروعة.. فى هذه الحالة تكون الأهداف مريبة والنوايا غير سليمة.. ويكون الحساب واجبا!.. ويكون لكلام الولاياتالمتحدة عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.. معنى آخر.. وهدف آخر!.. ويقتضى الانصاف أيضا - ونحن نناقش قضية التمويلات الأجنبية.. تذكير القارئ بأن هذه القضية كانت السبب الرئيسى والمباشر فى الصدام الذى حدث بين بعض القوى السياسية والجيش.. على وجه التحديد نستطيع أن نقول إنه ومنذ منتصف العام الماضى كان تسريب الجيش لمعلومات عن منظمات المجتمع المدنى التى تتلقى تمويلا أجنبيا غير مشروع.. تقابله حملات من هذه المنظمات تطالب المجلس العسكرى بالرحيل.. لا أبالغ لو قلت إنه كانت هناك محاولات مفتعلة للدخول مع الجيش فى صدام.. وإن هذه المحاولات كانت تتزامن دائما مع الحديث عن قضية التمويلات الأجنبية!.. لا أبالغ أيضا لو قلت إنه كلما تم الإفصاح عن معلومات تخص هذه القضية وفتح ملفات التحقيق فيها.. زادت شراسة هذه المنظمات فى الدفاع عن نفسها والقيام بهجوم عكسى على الجيش والمجلس الأعلى للقوات المسلحة.. ولا أذيع سرا لو قلت إن هناك ارتباطًا وثيقًا بين شعارات سقوط حكم العسكر.. وقيام المجلس الأعلى للقوات المسلحة بتسريب معلومات عن التمويل الذى حصلت عليه بعض المنظمات المدنية.. وهكذا - إذا اتفقنا مسبقا على الإنصاف - يحق لنا أن نتسائل: لماذا تحيط الشكوك بهذه القضية؟.. لماذا تضع بعض منظمات المجتمع المدنى نفسها فى هذا الموقف المريب؟! ويزيد الشكوك والريبة موقف الولاياتالمتحدة من هذه القضية!.. *** عندما قامت الجهات القضائية بفتح باب التحقيق مؤخرا فى ملف التمويلات الأجنبية وماترتب على ذلك من قيام قضاة التحقيق بتفتيش مقار بعض المنظمات المدنية والتحفظ على بعض المضبوطات.. عندما حدث ذلك قامت قيامة أمريكا وتعاملت بمنتهى العصبية والغضب مع ما حدث!.. المسألة وصلت إلى حد الإهانة.. إهانة المجلس العسكرى وإهانة مصر كلها وماصاحب ذلك من تهديد بقطع المعونة العسكرية.. أى بحرمان مصر من الحصول على معونة تصل قيمتها إلى مليار و200 مليون دولار. إلى هذا الحد؟!.. وما الذى يدفع الولاياتالمتحدة لكل ذلك؟.. ما الذى يدفعها للدخول فى عداء مع مصر كها ومع الجيش؟!.. هل تفعل ذلك من أجل بضع جمعيات مدنية وحقوقية لم يزد عددها على 17 جمعية؟!.. هل صحيح أن السبب هو انزعاج الولاياتالمتحدة وقلقها على الحرية فى مصر والديمقراطية وحقوق الإنسان؟!.. إن كان ذلك صحيحا فلماذا تخالف الولاياتالمتحدة كل هذه المبادئ فى كل مكان - حتى فى داخل الولاياتالمتحدة أحيانا - وتتمسك بها فى مصر؟!.. الولاياتالمتحدة حطمت كل مبادئ الحرية والعدالة وضربت بحقوق الإنسان عرض الحائط فى أعقاب هجمات 11سبتمبر.. وكانت حجتها أمن أمريكا القومى.. الولاياتالمتحدة من أجل أمنها القومى احتلت دولتين -أفغانستان والعراق - وأبادت الآلاف بدون ذنب.. فأين كانت مبادئ الحرية والعدالة؟.. وأين ذهبت حقوق الإنسان؟!. الولاياتالمتحدة تنسى أنها أقوى منتهك لحقوق الإنسان فى فلسطين وغيرها.. فلماذا هذه الحرب الشعواء على مصر من أجل بضع منظمات مدنية؟!..لابد أن هناك سببًا!.. *** ليس خافيا على الادارة الأمريكية -التى أعلنت عن دعمها المبكر لمصر ولثورة مصر- ليس خافيا عليها أن أكثر ما تحتاجه مصر فى هذه المرحلة هو الاستقرار.. ويبدو لافتا للنظر أن الادارة الأمريكية تسعى بكل ماتملك من جهد للسير فى عكس هذا الاتجاه!.. الولاياتالمتحدة هى التى كشفت بنفسها عن حجم التمويل الذى تقدمه لمنظمات المجتمع المدنى فى مصر.. وهو ما فتح الباب لجدل واسع حول حقيقة دور هذه المنظمات وأثار الشكوك حولها.. والمحصلة حالة من عدم الاستقرار والاحتقان سواء بين بعض هذه المنظمات وبين الرأى العام.. أو بينها وبين المجلس العسكرى.. الولاياتالمتحدة بموقفها المعادى للمجلس العسكرى وانتقادها لقيام قضاة التحقيق بتفتيش مقار المنظمات المدنية.. كأنها تطلب من هذه المنظمات الاستقواء بها(!!!).. وكأنها حريصة على إبقاء التمويل سرا.. وأوجه الإنفاق سرية!.. وليس هناك شك فى أن هذا الوضع يزيد من الاحتقان ويصب فى خانة عدم الاستقرار. الولاياتالمتحدة بعد ذلك لم تخف تهديدها للمجلس العسكرى بإلغاء المعونة العسكرية.. وهو بالقطع تهديد جاد.. إما أنه سيدفع المجلس العسكرى للتراجع عن مواجهة المنظمات المخالفة.. وإما سيجعله أكثر إصرارا على المواجهة.. وفى كل الأحوال يزيد الاحتقان ويضيع الاستقرار.. ثم لانستطيع أن نتجاهل أن كل ذلك يتزامن مع زيادة معدلات تهريب الأسلحة إلى داخل مصر.. المشكلة ليست فى السلاح التقليدى بقدر ماهى مشكلة الأسلحة غير التقليدية كالأسلحة المضادة للطائرات والدبابات وغيرها.. وإذا وضعنا ذلك كله فى الاعتبار فنحن أمام محاولة جادة لإغراق مصر فى الفوضى.. ويتفق ذلك مع نظريات الفوضى الخلاقة التى أعلنت عنها الادارة الأمريكية السابقة وعن الشرق الأوسط الجديد الذى تتعامل معه الولاياتالمتحدة وكأنه واقع آت لا محالة!.. ويساعد الولاياتالمتحدة فى تحقيق هذه الأهداف الذين يتناسون أنها مصر.. وأنهم مصريون!.. *** كان من الممكن أن نتفهم موقف المنظمات التى شملتها التحقيقات القضائية إذا اقتصر غضبها ورد فعلها على التحرك داخليا.. لكن الذى لا يمكن أن يفهمه أحد هو قيام بعض هذه المنظمات بالتهديد بتدويل المشكلة!.. بعض هذه المنظمات قررت تقديم بلاغات للنائب العام.. لكن بعضها أعلن أنه يفكر فى تقديم بلاغات للأمم المتحدة!.. ليس خافيا أن لجوء بعض المنظمات للأمم المتحدة يفتح الباب على مصراعيه للتدخل الخارجى.. فهل تسعى هذه المنظمات (المصرية) لفتح هذا الباب؟! لست فى حاجة إلى تذكير القارئ بأن دولة بأكملها سقطت وتهدمت وضاع حاضرها ومستقبلها لأن بعض أبنائها فتحوا هذا الباب.. أليس ذلك ما حدث فى العراق؟!.. *** نختلف أو نتفق.. ليس هناك أحد فوق القانون حتى لو كانت منظمات المجتمع المدنى التى شاركت فى الثورة وفى إسقاط النظام.. وإذا كانت هذه المنظمات تنادى بتطبيق القانون.. فمن باب أولى أن تبدأ بنفسها!..