ليس ادعاء للفراسة أو استعراضًا للفطنة أن أؤكد أن النتائج التى أسفرت عنها المرحلة الأولى فى الانتخابات التشريعية الأخيرة كانت متوقعة وذلك لأسباب كثيرة ليس أولها التيار الإسلامى بجناحيه الإخوانى والسلفى فهما قوتان منظمتان تعرفان الطريق جيدا إلى قلوب الناخبين خاصة أنهما تعزفان على أوتار إيمانية تتعلق بالدين ونحن شعب بطبيعته يقدس التدين وهذا الطبع ليس مقصورا على الدين الإسلامى فقط ولكن المسيحى أيضا بما يجعل هذه الطبيعة متأصلة فى شعبنا المصرى تأكيدا بأنه أول من آمن بالوحدانية الخالصة قبل آلاف السنين.. ومن بين الأسباب أيضا أن المواجهة الانتخابية كانت غير متكافئة بالدرجة التى ترجح كفة الإسلاميين حيث انقسمت المواجهة إلى قسمين أولهما الأحزاب القديمة التى انتقدت الجماهيرية فى الشارع المصرى لما اعتراها من وهن اقترن بسلبية التفاعل مع الجماهير وثانيهما الأحزاب الجديدة التى لا تستند إلى قاعدة شعبية تضفى عليها ثقلا سياسيا فضلا عن الافتقاد الواضح فى مكونات هذه الأحداث الوليدة للتجربة السياسية التى تصقل أداءهم السياسى وتؤهلهم لموقع المنافسة المتكافئة وذلك لحداثة هذه التجربة التى يقاس عمرها بالشهور المعدودة.. وأعتقد ان السبب الأخير والذى لا يقل أهمية عما سبق من أسباب وهو ميراث فقدان الثقة التى أورثنا إياها النظام السابق بين الناخب المصرى والمسئوليين عن العملية الانتخابية وإن كان ذلك قد بدأ على العكس تمامًا حين وصلت نسبة المشاركة فى هذه الانتخابات إلى ما يتجاوز الستين فى المائة وهذا يرجع بالضرورة إلى الحشد المنظم للتيار الإسلامى مستغلا ذلك لمصلحته حيث انعدمت المنافسة الإيجابية من معظم القوى السياسية الأخرى وهذا اتضح بشكل مؤكد من خلال النتائج التى أسفرت عنها الانتخابات والتى بدأت من خلالها النسب الضئيلة التى حصلت عليها قوى سياسية عريقة كان من المفترض أن يحمل لها العهد الجديد واقعا مغايرا يحصل من خلاله كل فصيل سياسى على حقه المهدر عبر أكثر من ستين عاما نتيجة لميراث بغيض من التدليس والتزوير ولىّ عنق الحقيقة. وفى المرحلة الثانية للانتخابات والتى تدخل فى معتركها تسع محافظات جديدة يتبدى لنا مشهدها السياسى بمعطيات يمكن ان تكرر نفس النتائج التى حدثت فى المرحلة الاولى وذلك لنفس الأسباب السالفة الذكر وخاصة حين تقرر أن مختلف القوى السياسية المشاركة لم تتخذ موقفًا حاسما يستخلص من المرحلة الأولى العبر والعظات بما يحدث التغيير المأمول لها فى الخريطة السياسية التى يمكن على أسسها تحديد الشكل الأمثل لبرلمان أطلق عليه المحللون السياسيون «برلمان الثورة» وأعتقد أن هذا الوصف لهذا البرلمان الأول بعد ثورة 25 يناير لم يأخذ من مضمونه سوى الوصف المجرد والذى يؤكد ذلك بشكل واضح هو أن مقاعد هذا البرلمان تكاد تخلو نسبيا من التمثيل الفاعل لثورة 25 يناير وتمثله فى ذلك قائمة «الثورة مستمرة» وبعض تحالفات أخرى ولكنها بكل أسف غير مؤثرة فى منظومة اللعبة السياسية خلال هذه الانتخابات فضلا عن مفاجآت حدثت على غير المتوقع ومن أبرزها إخفاق رموز ثورية لها تاريخها النضالى عبر سنوات مضت كان صوتها أكثر دويا بما يجعل منها إرهاصات لما حدث فى أواخر يناير ونسوق منها على سبيل المثال لا الحصر حركة كفاية والتى كانت هى اللبنه الأولى فى المطالبة بالتغيير وقد أتضح ذلك من خلال شعارها الأشهر لا للتمديد أو للتوريث وقد حفلت تظاهراتها بتأييد شعبى جارف خاصة أنه كان لهذه الاحتجاجات الأثر الأكبر فى كسر حواجز الخوف فى الشارع السياسى المصرى مما شجع بقية القوى السياسية المناوئه للنظام أن تخرج سافرة بمطالبها فى وقت كان النظام يحكم قبضته الحديدية على مثل هذه المظاهر المعارضة لخطط هذا النظام فى استمرارية استبداده وسيطرته على مقاليد الحكم.. ولنا فى دائرة بورسعيد التى أخفق فى الحصول على مقعد فيها المعارض الكبير جورج أسحق الذى آثر الترشح بها باعتبارها مسقط رأسه ضاربا عرض الحائط بنصائح المخلصين له بالترشيح فى دائرة من دوائر القاهرة بتلك العاصمة التى استطاع اسحق أن يحتل مساحة كبرى فى وجدان سكانها مما كان يتيح له استغلال ذلك فى نجاح منتظر كان يمكن له أن يبدل ما تعرض له من إخفاق فى بورسعيد حيث يوجد بها نواب لهم من الأرصدة لدى شعب بورسعيد مثل الدكتور أكرم الشاعر والنائب المخضرم البدرى فرغلى.. وما حدث فى بورسعيد حدث فى محافظات مماثلة جعلت نتائج المرحلة الأولى صادمة حالت دون وجود مثل هذه النماذج المعارضة تحت قبة برلمان الثورة والتى يمكن لها أن تحدث سجالا سياسيا يجعل من هذا البرلمان.. برلمانا مختلفا ومغايرا لما اعتدناه من توليفة سياسية تحمل أجندات خاصة وشخصية تبتعد بنا عما نأمله فى هذا البرلمان فضلا عن المهام الجسيمة المنتظر إبرامها خلال الفصل البرلمانى الأول والذى من أهمها صياغة دستور مصر الدائم بمفاهيم مستجدة تتكافأ وما ينتظر من خطوات حاسمة فى التاريخ المصرى كالانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها فى الشهور القليلة القادمة، وكذلك تسليم متقاليد الحكم لسلطة مدنية ترسخ مبادئ الدولة فى عهدها الجديد.. إن البرلمان رغم ما شاب نتائجه ومالنا عليها من تحفظات فإنه مازال يحدونا الأمل فى تحقيق ما نصبو إليه من أهداف تتحقق من خلالها الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتى كانت شعارًا للثورة المصرية وأملا لكل المصريين.